صور البروفايل واستبداد الغياب

زيتون – عدنان صايغ 
تشير أدبيات الثورة وما تلبس منتسبيها من رومانسية مفرطة في بداية حراكهم نتيجة لما كابدوه من مرارة الفقد وغموض القادم إلى إحساسهم بهول الخسارة والخوف من تحملها هباء، بل وربما قد أنبأهم حدسهم بمآلاتهم الفاجعة، ومع الموت اليومي والخسارات المستمرة راحوا يؤسسون للراحلين أماكن في واقعهم غير قابلة للنسيان.
دفع الانهاك وانعدام الصوت الذي أصاب المتظاهرين بشعور اللاجدوى بعد سنوات من الصبر والجلد إلى خلق أنفاق ومكامن نفسية كوسائل دفاعية، وظيفتها حفظ ما يموت منهم، واللجوء إليها كلما سنحت لهم الفرصة، لا سيما حين يضيق الفم عن التعبير، ويكبر الألم عن الاحتمال.


صور البروفايل
كشعار موجز ومختصر يضع الكثير من السوريين صور لمحبيهم الغائبين بفعل الموت أو الاعتقال، ولأن صورة البروفايل يفترض أن تكون لصاحب الحساب، فقد التبس الأمر في حمى وفوضوية وسائل التواصل حتى تداخلت ملامح الغائب مع ملامح صاحبه، وما يزال حتى اليوم لا يعرف الكثيرون إن كانت صورة بروفايل صديقهم له أم أنها لعزيز غائب.
ولأن الصورة رسالة وانتماء فقد شهدت حسابات السوريين صورا لرموز ثورية كانت دليلا على تمسكهم بالفكرة التي غاب من أجلها صاحب الصورة، وهي هنا تمثل شخصيتهم بشكل اقوى مما لو كانت صورهم الحقيقية، رغم أن ما مر من زمن عفا على رمزية البعض منها، لكن شيئا ما ظل يمنع الكثير منهم عن ارتكاب أثم تغييرها، لما صار لها من مكانة الحلم والرمز وما لها من وعود معقودة تتبنى أمل عودتهم أحياء أو خروجهم سالمين.
صورة البروفايل ليست مجرد صورة، إنها تخليد متجدد لصاحبها على صفحات التواصل، هي شاخصة فيك وأمامك، سؤال معلق عن المصير، وتحقيق مستمر عما فعلت، ربما دفعتك للصمود والثبات أكثر في وجه الهزيمة والاستسلام، ربما شجعتك على التمسك بما كان سببا في غيابهم.
ليست مجرد صورة، هي وثيقة لعدالة هشة محتملة، وقصة أكيدة للأحفاد، هي اسم للمواليد الجدد، وحضور طاغ لدى الأمهات في الأعياد، هي عُقد يصعب تجاوزها في منعطفات الحياة ومشاريع العمر، هي أباء وأبناء وأخوة وأحباء.


يقف خلف ثبات تلك الصور وديمومتها سؤال مر: هل خسرناهم سدى؟
بمحاولة يائسة وأخيرة يتمسك الخاسرون بقضاياهم من خلال صورة وذكرى، يلوحون بها على أي منبر متاح، وأولى منابرهم صفحاتهم وحساباتهم، هؤلاء شهداؤنا وضحايانا ولهم حق نحن أصحابه، لن نتجاوزه ولن نتنازل عنه، إن كان اليوم قد استحال فإن للغد احتمالاته.
من زوجة ما يزال أبناؤها يسألون عن أباهم إلى أم ترفض الركون إلى موت ابنها، إلى صديق لم يحتمل فكرة موت صديقه، كل منهم يرى في حياة صاحبه قضية تتجاوز معنى الزمن ولا ينال منها التقادم.
إن اعتماد صورة لفقيد قضى وهو يناضل من أجل حريته أو معتقل لا يُعلم مصيره هو ترف غير قليل للسوريين، فقلة من أولئك الذين يمكنهم أن يختاروا صورة بروفايلهم بما يعبر عن شعورهم في مناطق النظام، وهم محرومون كحرمة أي حرية تعبير من أن يكونوا أحرارا في اختيار بروفايلاتهم، في حين أن ذلك متاح لمن هم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام أو في المنافي وبلاد اللجوء.
الغائبون في حمى الغياب السوري يحضرون بقوة في المأساة السورية، يشاركون الأحياء في تفاصيلهم، يقاسمونهم الخيام في النزوح، يسكنون حقائب اللجوء، يلتصقون على زجاج خزائن البيوت، يأبون النسيان، ويصبح النسيان خطيئة يرتكبها الأحياء، الغائبون يسيطرون على التسويات ويمنعونها، الغائبون يفرضون مواقفهم على الأحياء، الغياب يسطو على حياة السوريين ويستبد بهم.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*