“أنا السبب”

زيتون – تيسير محمد
أنا سبب المصائب، ودمار العائلة، أنا من وضعت أهلي في دائرة استهداف الأجهزة الأمنية، أنا من حرضت أخي على المشاركة والخروج في المظاهرات، وأنا من تسبب في قتله.
أنا “هبة الشامي” أعيش الأن في الولايات المتحدة الأمريكية بعد حصولي منحة قدمت لي، أجريت المقابلة في السفارة الأميركية في الأردن وبعد أربعة أشهر وصلت إليها مع أمي وأخوي الصغيرين. 
بعد موت أخي خلال المظاهرات السلمية في بداية الشهر الثاني “2012” عرض أحد أقربائي الناشطين في “الخارج” علي منحة دراسية عن طريق السفارة الأمريكية، رفضت حينها الأمر بشكل قطعي، وأخبرته أن موت أخي لن يثنيني عن المشاركة في الثورة، عدا أني لا أتخيل نفسي أعيش خارج حارتي في دمشق.
وبعد ثلاثة أيام اعتقلت على أثر تلك المحادثة بتهمة التعامل مع جهات خارجية، وبقيت محتجزة في أقبية فرع “أمن الدولة” القريب من منزلي اثنان وعشرين يوماً، ومن ثم تم تحويلي إلى سجن عدرا، خرجت منه بعد أسبوعين ثم أفرج عني في منصف الشهر الخامس، لم تكن بالمدة الطويلة قياسا بما تقضيه بعض المعتقلات من سنين، لكنني تعلمت الكثير ورأيت الكثير، ولأنني ذات طبيعة تميل إلى التعامل بمنطق مع الحياة، فقد قررت المضي في حياتي دون أن أسمح لهذا الاعتقال من أن يكون عقدة ومعيقا لي.
في الفترة الأولى من خروجي لم ألحظ أية معاملة سيئة، بل كان الجميع يعاملني كبطلة محررة أو مثل أخي الشهيد، ما شجعني ورفع معنوياتي واستأنفت دراستي في كلية الهندسة الميكانيكية السنة الثانية، في الجامعة تعرضت إلى الكثير من المضايقات خصوصا من الهيئة الطلابية المرتبطة بأجهزة الأمن، تركت على إثرها مقاعد الجامعة وأصبحت أكثر احتكاكاً بأقاربي ومحيطي، وبدأت أشعر مع مرور الوقت أني في دائرة الريبة والكل يتعامل معي بحذر شديد، بعضهم يتجنب اللقاء معي وأخرين لا يجيبون على اتصالي بهم.
توفي أبي منذ عشر سنين إثر سكتة قلبية، ومنذ ذلك الحين كان أعمامي هم الأوصياء علينا، وبعد خروجي من المعتقل لاحظت تغير معاملتهم معي ومع عائلتي بشكل كبير، كانوا يتعمدون كلما سنحت لهم الفرصة بلومي وتوبيخي على أني سبب مصائب العائلة ووضعها في دائرة الاستهداف من الأجهزة الأمنية، وأني من حرضت أخي على الخروج في المظاهرات وتسببت بمقتله رغم أني لم أعرف حينها شيئاً عن خروجه في المظاهرات مع رفاقه في الثانوية، كما طلبوا من أمي أكثر من مرة أن نغير مكان سكننا “من أجل مصلحتنا” على حد زعمهم.
تجربتي في المعتقل بسيطة لم أتعرض إلى للضرب والتعذيب، لكنهم كانوا خبراءً في الضغط النفسي وسحق الذات البشرية من خلال محاولة المحققين أن أصل إلى درجة من اليأس والخوف قد تكون ربما لردعي عن المشاركة في الثورة في حال خرجت أو حتى التفكير بها، لكنني كنت أرى العذاب الذي تتعرض له اخريات أقل حظا مني وهو ما كان يشعرني بكل لسعة سوط أو صفعة كن يتلقينها.
ما احتجته في تلك الفترة وما تحتاجه كل معتقلة مفرج عنها أكثر من حملات مناصرة إعلامية، لا بد لهن من عمل يملأ حياتهن ويحفظ كرامتهن، ولا بد لهن من مقعد دراسي آمن، لا بد لهن من محيط متفهم يحترم تجربتهن في السجن، كما أنهن يحتجن إلى منزل بدل الذي هجرن منه، ويحتجن إلى الكثير من الرعاية النفسية والوقت الهادئ حتى يستعدن ما خسرنه.

تم انتاج هذه المادة ضمن حملة  #ناجيات_أم_ليس_بعد #Survivors_or_not_yet

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*