صباح

زيتون – عدنان صايغ

كان يحب الصباحات التي تأتي حبلى بالأمل، حين تكون الأشجار ما تزال نائمة يهدهدها بعض النسيم البارد، فيما تلتقط الطيور فطورها بسلام.

دأبت أم محمد على اللحاق به تاركة له بعض الوقت يقضيه هانئا بوحدته الصباحية، قبل أن تجدد قهوته لتشاركه فيها مرة أخرى، لكنها في ذلك الصباح تأخرت.

صوت عنين بعيد راح يصل مسامع أبو محمد وهو يرتشف قهوته، استنفرت أذناه مصيخة السمع، حاول أن يتأكد من هواجسه قبل أن يقض نوم أسرته، هو يعرف هذا الهدير، إنه صوت الرعب والموت والغبار.

دقائق كان الصوت يزداد وضوحا وأقصى اليقين كل أوهام الأمل بصباح هادئ، سارع إلى إيقاظهم فهذا الموت الطائش كالدابة العمياء يمكن أن تدوس الجميع.

نهر الأطفال الذين استيقظوا بعيونهم الناعسة ونظراتهم الحائرة مستشعرين خوفا لا يفهمونه، لكنهم يحسوه في صوت أبيهم الحاسم، بعضهم خرج يتبعه وهو يستشرف اتجاهها وهدفها، مستعينا بقبضته اللاسلكية وما تقدمه المراصد من معلومات قد تثمن وقد لا تثمن من جوع.

لم يملك أبو محمد سوى البكاء وهو يبحث تحت الركام عن زوجته وطلفه الصغير، بعد أن عاجلته الطائرة بحمولتها قبل أن يهرب بهم، وظل يبتهل -وهو يزيح الحجارة كالمجنون- إلى كل من يمكنه أن يعيدهم إليه كما كانوا قبل قليل أحياء، لكن رائحة الموت والغبار وصراخ من تبقى من أطفاله وجيرانه كان يزيد مما كان يخاف، الخوف والحب، الرعب والحنان، الموت والحياة، هي ثنائيات تحضر في عقل وقلب المكلومين حديثا، تنازعه أفكاره فيها وأشفاقه وحنانه على طفله.

لم يعد يحب الصباحات الهادئة، صار يخشاها، وكبر فاجعته على هولها ليست مميزة في تلك البلاد، إذ كان الناس يتناقلون الخبر كشيء مؤسف يحدث مجددا.

اعتاد أبو محمد العودة والجلوس على أنقاض بيته بين الحين والآخر، كان يجلس على تلك الحجارة التي بناها حجرا حجر، شاردا بمعنى ما يحدث، وما حدث، وما سوف يحدث، ساخرا من كل البديهيات التي كانت ايمانا لديه، محتقرا معنى الحياة وعبثيتها، وبرغم كل محاولاته بالتماسك من أجل أطفاله، إلا أنه كان يعاود السقوط في اليأس والانهزام.

ظل يتمنى عودتها مستعيدا صورتها في ليلة الزفاف، قادمة بين الشجيرات، تحمل قهوتها الطافحة بالحب، تذكر صلابتها بجانبه حين كان ينهار تحت ضغوط الحياة، كانت أكثر من زوجه ولطالما نادها بالرفيقة والصديقة، اعتاد وجودها كخل وفي، وكانت تبث في البيت ذلك الجو من الطمأنينة والحب، وها هي قد رحلت مقتولة تحت حجارة بيتها دون أن يتمكن من إنقاذها.

عرف أبو محمد بعد رحيلها معنى الأمومة، تعلم أن يفهم حاجات أطفاله محاولا سد الفراغ الذي تركته، أدرك متأخرا كم كانت تفكر فيهم حتى أمكنها تهيئة حاجاتهم قبل أن يطلبوها.

لم يستطع أن يتصالح مع فكرة موتها، وظل يلوك فكرة مكانها؟ ما الذي تفعله؟ هل تفكر فينا؟ هل تحس بشيء؟ أم أنه العدم؟.

الصور لا ترجع الموتى، وكل ما أخرجه من بيته لا يمنحه السلام، عبثا يطيل النظر في وجهها الساكن في تلك التصاوير، غارقا في أفكاره وذكرياته، حالما بعالم أكثر منطقية وحياة أقل وحشية وصباحات غارقة بالهدوء والسلام.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*