حلم من خشب.. أطفال سوريا المبتورون

زيتون – فاطمة حاج موسى

لم يكن توقف الأم عن إرسال “سعد” للمدرسة كافيا لحمايته، إذ أن صوت انفجار صاروخ قريب من منزلها أنبأها أن طفلها قد أصيب.. في الشارع القريب كان الطفل يزحف محاولا الوصول إلى بيته وقد علقت به بعض أجزاء قدمه.

كان أول الواصلين إليه شقيقه الأكبر، وبينما تم نقله بسيارة الإسعاف إلى المستشفى كانت الأم المفجوعة تركض خلفهم.

الطفل سعد الدين - زيتون

الطفل سعد الدين – زيتون

 صوت سعد القوي كان يعلو داخل المستشفى وهو يرتل بعضا من آيات كان قد حفظها وسمع أنها تساعد في تسكين أوجاعه، ولكن مع وصول أمه انهار حاجز القوة وبدأ بالبكاء وهو ينطق الشهادتين ظناً منه أنها النهاية.

“سعد الدين” له من العمر عشر سنوات يعيش في بلدة “أورم الجوز” بريف مدينة أريحا بجبل الزاوية، تسببت إصابته بشظية صاروخ من طائرة حربية بفقد قدمه اليسرى.

قرر الأطباء ضرورة بتر قدمه، وبعد مضي أسبوع أخبرت الأم ابنها عن بتر قدمه التي كان يقفز ويركل بها، معللة ذلك بالتخفيف من ألمه وقد سبقته إلى الجنة، لكن الطفل الذي بدا غير مستوعب ظل صامتا.

بعد التئام الجرح انتقل سعد للعلاج الفيزيائي الذي استمر لمدة خمسة أشهر، أفاق خلالها على واقعه الجديد، وأن حقيقة بتر قدمه ليست كابوسا سينتهي كما كان يظن، فاعتزل بباقي جسده عن الاختلاط بالأطفال ورفض العلاج أو مقابلة أي من الزوار، ولكن مع إصرار والدته على العلاج قبل بشرط أن لا يشاهده أحد.

يعتبر الحصول على طرف صناعي للأطفال المبتورين حلما قد يعيد إليهم جزءا من الحياة التي سلبت منهم، لكن تكلفة الحصول عليه دون مساعدة من المنظمات الإنسانية أمر مكلف، وتتراوح تكلفة الطرف ما بين الـ 1000 إلى 1500 دولار، فيما يصل سعر الطرف الصناعي الذكي إلى ما يتجاوز 50 ألف دولار، هذا فضلا عن تكلفة العلاج الفيزيائي الطويل، هذا ما دفع ببعض المراكز إلى التوجه نحو صناعة الأطراف الصناعية بشكل محلي، وهو ما يقوم به مركز “الخطوات السعيدة” في شمالي سورية.

يقول مدير مركز الخطوات السعيدة الطبيب “مصطفى النجار” إن 13 حالة يتم فيها تركيب أطراف في الشهر الواحد، وهو ما يجعل مجموع عمل المركز خلال ست سنوات منذ إنشائه في عام 2014 وحتى الأن هو ما يقارب 900 حالة.

ويضيف النجار: “يتم التوجه حاليا إلى تركيب وتصنيع الأطراف بشكل محلي من قبل العاملين في المركز، الإنتاج والتركيب المحلي للأطراف من قبل اختصاصيين محليين ساهم في توفير بديل بتكلفة أرخص من الأطراف المقدمة من قبل المنظمات الدولية، كما أنها ضمانة لاستمرار انتاجها في حال توقف الدعم الانساني، لذلك نقوم حالياً بتصنيع أقدام كربون ومفاصل هيدروليك وتقدم مجاناً”.

صناعة محلية للأطراف في مركز الخطوات السعيدة - صفحة المركز

صناعة محلية للأطراف في مركز الخطوات السعيدة – صفحة المركز

يضم المركز فريقا من المختصين بالدعم النفسي والعلاج الفيزيائي، سعيا منه لتغطية حاجة المصاب قبل وبعد تركيب الطرف ومتابعة حالته الجسدية والنفسية.

وفي حقيقة صادمة صرح عنها رئيس رابطة الأطباء الدوليين، الدكتور “مولود يورت سَفَن”، في كلمة له بإسطنبول قال فيها إن نسب إصابات الساق وبتر الأذرع بسوريا هي الأكبر في العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

مشيرا إلى أن ما تشهده سوريا هو أكبر أزمة ودمار منذ الحرب العالمية الثانية، مضيفا أن “هذه المنطقة لن تقوم لها قائمة مرة أخرى”، وقال: “نواجه في سوريا أكبر أزمة إصابات في الساق، وبتر أذرع بالعالم منذ الحرب العالمية الثانية”.

صورة لطفل بعد حصوله على طرف صناعي - أنترنت

صورة لطفل بعد حصوله على طرف صناعي – أنترنت

المرشدة الاجتماعية “كوثر الحاج عيسى” العاملة في إحدى المنظمات الإنسانية قالت لزيتون: “تصلنا الكثير من الحالات لأطفال بمختلف الأعمار نقوم بتوجيههم للمراكز المختصة بتقديم الدعم النفسي”.

وترى المرشدة أنه من الضروري معالجة الطفل المصاب نفسيا بعد شفائه من الإصابة الجسدية لمساعدته على التأقلم مع إصابته، وهي مهمة ليست بالسهلة في الحالة السورية التي تستمر فيها أسباب الإصابة ما يزيد من صعوبة الشفاء النفسي ويعرقل جهود العلاج.

ومع عودة الألم مرة أخرى خضع سعد لعملية جديدة تم خلالها إزالة جزء من العظم، وبعد تركيب طرف اصطناعي وتدريبه على المشي عليه، فشلت محاولته في المشي بسبب عدم تناسبها مع قدمه، ما زاد بتردي وضعه النفسي والصحي.

تتعرض مدينة أريحا وما حولها للقصف الجوي الدائم وهو ما يسبب حالة من الخوف والفزع ترافق سعد من كل صوت يشبه صوت الطائرات، كما أنه يخشى من نظرة المجتمع له كونه معاق، ما دفعه للانزواء في منزله مكتفيا بهاتفه دون أن يكون لديه رغبة بالمشاركة في أي نشاط، رافضاً الذهاب مع والدته للخبير النفسي، خصوصاً انه سيخضع قريباً لعملية جديدة لـ “حقن العصب”.

ضحايا بقصفٍ جوي من طائرات النظام على مدينة أريحا - تموز 2019 (الدفاع المدني)

ضحايا بقصفٍ جوي من طائرات النظام على مدينة أريحا – تموز 2019 (الدفاع المدني)

وبسبب هذه العمليات يتوجه الطفل معاتباً والدته أنها لم تصدق القول حين أخبرته أن قدمه بترت لكي لا تسبب له الآلام، ومع إغلاق  المراكز الصحية في المنطقة بسبب القصف أو نقص المواد الطبية أصبحت العملية مكلفة مادياً ولا يمكن تأمينها أو تأمين طرف اصطناعي يناسبه.

تعرضت أم سعد لانزلاق بفقرات العمود الفقري، وهي اليوم تجد صعوبة بالتعامل مع طفلها، محاولة تشجيعه بشكل دائم حتى يكمل حياته برضى، عكس والده الذي تسلل إلى نفسه اليأس والإحباط من الوضع الذي وصل إليه طفله.

تقدم المنظمات والمراكز المختصة مجموعة من النشاطات والمهارات هدفها بالدرجة الأولى تعزيز الثقة بالنفس والتعايش مع الوضع الجسدي الجديد، كما تستعين بأطباء نفسيين في حالات الكآبة الشديدة بحسب المرشدة الاجتماعية “كوثر الحاج عيسى”.

كما تحذر “العيسى” من قابلية الأطفال الذين تعرضوا لعنف مفرط أو حالات بتر للانتكاس بسرعة، رغم ما يبدو عليهم من تعافي جسدي ونفسي، وهو ما يستلزم بحسب رأيها استمرار الرعاية والدعم، مشيرة إلى دور الأهل الأساسي في شفاء طفلهم، معتبرة أن تقبل الأهل لوضع طفلهم هو الأهم كي لا يكونوا سببا من أسباب تدهور حالة الأطفال المصابين.

تم إنتاج هذه المادة بدعم من منظمة FPU

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*