حقائق حول التعليم في إدلب: أطفال يتحدّون الجهل!

يطلّ عام دراسي جديد على أطفال الأرض، في الوقت الذي تدَمّر فيه مدارس الأطفال في إدلب بطيران الروس وبراميل نظام الأسد، فتدفعهم للنزوح والاحتماء بين الصخور وداخل الكهوف وتحت أشجار الزيتون.

لا شيء يضاهي غبطة الأطفال في يوم المدرسة الأول، بحقائبهم وقرطاسيتهم الجديدة ولباس المدرسة الموحّد، ولقاء أصدقائهم القدامى، واستلام الكتب ذات الأغلفة اللامعة ورائحة الحبر والورق تنبعث منها؛ إلا في إدلب: لا مدارس ولا حقائب ولا قرطاسية، ولا كتب جديدة أو قديمة.

واقعٌ متردي ومصير موحش

يعتبر ملف التعليم من أعقد الملفات التي تعاني منها محافظة إدلب منذ الأيام الأولى التي تلت تحريرها من قوات نظام الأسد عام 2015، إذ تزامن ذلك التحرير مع التدخّل الروسي السافر لمساندة قوات الأسد في حربها ضد السوريين.

ولعل الحملات العسكرية المتكررة، والتي لم تهدأ يوماً على المنطقة شكّلت العامل الرئيس في انحدار الوضع التعليمي في المحافظة.

تمثّل ذلك في القصف المباشر والممنهج للمدارس بصورة خاصة، ولاسيما خلال أوقات الدوام الرسمي للطلاب، ما أدى لتدمير أكثر من (418) مدرسة، 54% منها بشكل كامل، حسب تقريرٍ صادر عن “وحدة الدعم والتنسيق” في تموز 2018 تضاف إليه إحصائية صدرت مؤخراً عن فريق “منسقي الاستجابة في الشمال السوري”؛ ومقتل نحو ( 1749) طالباً و(172) معلماً، في إدلب وحدها منذ بداية التحرير.

انعكس كل ذلك سلباً على الوضع النفسي المتأزم أصلاً بفعل النزوح والتهجير، سواء على المعلمين والطلاب، وكذلك على المستوى التعليمي للطلاب أيضاً.

ولا يشكل القصف ودمار المدارس المعضلة الوحيدة التي تعيق العملية التعليمية في المحافظة، فهنالك العديد من الصعوبات كنقص الكتب والقرطاسية والظروف الفيزيائية المناسبة للتعليم، ناهيك عن انسحاب غالبية المنظمات الأهلية والدولية ورفع يدها عن دعم التعليم في العديد من بلدات ومدن المحافظة.

الهجمة الأخيرة: أطفال يتحدّون الجهل

مع اشتداد وتيرة الهجمة الوحشية الأخيرة، أخذت أعداد الأطفال في الشمال الإدلبي تتزايد شيئاً فشيئاً بالتزامن مع امتداد سيطرة قوات الأسد على مدن جنوب المحافظة وشمال حماة، ليضافوا إلى أعداد النازحين من كافة مناطق التهجير القسري، في القلمون والغوطتين الشرقية والغربية وحمص وريفها، والهاربين من ويلات “داعش” وبقية الميليشيات في الشرق السوري.

لتصل أعداد الأطفال ممن هم في سن التعليم إلى المليون حسب إحصاءات منظمة الطفولة في الأمم المتحدة (اليونسيف).

انتشرت مؤخراً على صفحات التواصل الاجتماعي، صور لأطفال جالسين على مقاعد محشورة بداخل خيمة صغيرة؛ بثيابهم الرثّة، وأحذيتهم المهترئة التي تظهر منها أصابع أقدامهم الغضّة، لتوضّح صورة لدى المتابعين بأن الطفل السوري يصرّ على التعليم في أحلك الظروف وأسوئها.

ولا يغيب عن ذهننا ما حصل خلال الأيام الأولى للهجمة العسكرية التي دفعت الأهالي في ريف حماة الشمالي وجنوب إدلب للنزوح إلى مناطق الشمال، في شهري نيسان وأيار.

إذ تطوّع فريق من المعلمين والمعلمات لتدريس الأطفال تحت ظلال شجر الزيتون، بأدوات أوليّة تكاد أن تكون معدومة؛ فأطلقت الكوادر التعليمية في إدلب حملة “مستمرون” التي كتبت في إحدى منشوراتها: “عشرون ألف طالب سيقدمون امتحاناتهم حتى وإن أنشأنا مراكز امتحانية تحت أشجار الزيتون”.

ورغم الهجمة فقد شهدت الامتحانات إقبالاً منقطع النظير لطلاب الشهادتين في حزيران الماضي. فكرّست تلك المشاهد إصرار الأطفال على التعلّم.

ماذا يتهددهم؟

تصطدم تلك الرغبة الجارفة للتعلّم عند أطفال إدلب بمعوقات من أبرزها:

– الكتب:

يعتبر الكتاب المدرسي من أبرز الأساسيات في العملية التعليمية وركناً مهماً فيها، وقد جرى عليه ما جرى على باقي نواحي الحياة في سوريا، فانقسم ما بين الكتب الحديثة الصادرة عن النظام، وأخرى صادرة عن الحكومة السورية المؤقتة ممثلة بمديرية التربية الحرة في مدارس المناطق المحررة، وهو ما انعكس سلباً على الطلاب، وتشتتهم بين منهاجين شبه مختلفين، تجلى هذا التشتت في محافظة إدلب قبيل الامتحانات العامة لا سيما للطلاب الذين درسوا في مدارس التربية الحرة وتلقوا منهاجها ورغبوا بتقديم امتحاناتهم لدى تربية النظام نظراً للاعتراف بشهاداتها.

وكان مدير دائرة الإعلام في مديرية تربية إدلب الحرة “مصطفى حاج علي” صرح لزيتون في وقت سابق عن الفروقات بين الكتب المدرسية في مدارس التربية الحرة وكتب تربية النظام قائلاً: “قبل نحو عام كانت هناك بعض الفروقات القليلة بين كتب النظام وكتب التربية الحرة، بالنسبة للمواد الأدبية كاللغة العربية والاجتماعيات، التي تحوي دروساً تمجّد رأس النظام المجرم، أما بالنسبة للمواد العلمية فلم يكن هناك أي فروقات بين كتب التربيتين، وقامت التربية الحرة بتنقيح هذه الكتب، وإلغاء مادة القومية، وطباعة الكتب من جديد”.

مصطلح “تربية حرة” و”تربية نظام”، من أسوأ ما ظهر من مصطلحات ومن أكثرها إهانة لمهنة التعليم والمعلمين، إذ تنال من رسالة التعليم الإنسانية السامية، المتمثلة بتعليم الأجيال وتنشئتهم وصقلهم ثقافياً ومعرفيا،ً بغض النظر عن المسميات والإصطفافات السياسية”، بهذه الكلمات عبر أحد مدراء المدارس في كفرنبل، التابعة “لتربية حماة” عن الواقع التعليمي في محافظة إدلب بشكل عام ومدينة كفرنبل بشكل خاص.

ومع ما شهدته أروقة هذا القطاع من تجاذبات كثيرة، ومحاولة كل طرف من الأطراف المتصارعة، مد نفوذه والسيطرة على التعليم، دعت الأهالي جدياً للتفكير بحلول إسعافية مؤقتة وأخرى جذرية، تنقذ أطفالهم من هذه المتاهة.

وعن توفر الكتب في المدارس قال “أحمد المصطفى” من أبناء جبل الزاوية، وهو مدرّس وناشط في الشؤون التعليمية لـ “زيتون”: “مدارس محافظة إدلب كغيرها من المناطق المحررة في السابق والتي هُجّر أهلها إلينا، تعاني من نقص كتب المناهج الدراسية رغم تكفّل العديد من المنظمات الأهلية بطباعتها بعد تنقيحها وإزالة عبارات نظام الأسد منها وإلغاء مادة (التربية القومية)، وأذكر أن الطيران الروسي قد استهدف في إحدى المرات مخزناً يضمّ كمية كبيرة من الكتب في مدينة خان شيخون المحتلّة، ما أدى إلى احتراق جزء كبير منها”.

قلة الكتب تدفع بالكثير من المدارس إلى استعمال الكتب القديمة والمستعملة بشكل أساسي، لسد ما يمكن سده بها، بعد صعوبات توفر الكتب الجديدة.

2- القرطاسية وأدوات المدرسة:

كما تساهم الحالة المادية المتدهورة للكثير من الأسر في ضعف توفر القرطاسية اللازمة للأطفال بحسب المصطفى، لا سيما النازحين منهم، لذلك تكفّلت منظمات إغاثية بمنح ما يتمكنون من تقديمه للطلاب”.

ويضيف المصطفى “توقف الكثير من المنظمات الدولية عن تقديم الدعم لما يقارب 60 مدرسة في منتصف العام الدراسي المنصرم بالتزامن مع الهجمة العسكرية الروسية السابقة في بداية سنة 2019، سبب مشكلة كبيرة لقطاع التعليم في المناطق المحررة”.

ويرجع المصطفى سبب توقف الدعم إلى سيطرة حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام والتي تصنف لدى الدول الداعمة كمنظمة إرهابية وذلك بحسب ردود تلك المنظمات عن سؤال حول توقف الدعم، وهو ما انعكس سلبيا على الأطفال في إدلب.

أما المعلمة “خديجة. خ”، فتتذكّر كيف استمرت مع زملائها وزميلاتها بتدريس الطلاب في قريتها التابعة لجسر الشغور، رغم انقطاع الدعم وتوقّف رواتبهم الضئيلة التي كانت تقدمها لهم جمعية سورية مدعومة أوروبياً –لم ترغب بنشر اسمها، مضيفةً “كنت أحصل على بعض الأدوات والكتب من مدارس قريبة من قريتنا ولكن كادرها الإداري كان يقبض معاشه من النظام”.

– المعلمون:

تشكو مديرية تربية إدلب والأهالي، وكذلك الطلاب أنفسهم، من غياب الكادر التعليمي المؤهّل أكاديمياً لتنفيذ مهمة التدريس.

تسبب في ذلك الغياب هجرة الكثير من المعلمين إلى خارج سوريا فيما عزف أخرون عن العمل بعد قرارت صدرت من التربية النظام بوجوب مراجعة مراكز المديرية في المدن التي تقع تحت سيطرة قوات النظام في حماه، وما يمكن أن يتهددهم من خطر الاعتقال لا سيما بعد حوادث اعتقال جرت لعدد من المعلمين الذين حاولوا الوصول إلى مديرية التربية في حماه بغية استلام رواتبهم.

أحد أولياء الطلبة، “سامر أبو الخير”، تحدث لـ “زيتون” عن حالة التناقص المستمرة في الكادر التعليمي الأكاديمي وقال “قسم كبير من المعلمين ذوي الاختصاصات غادروا إلى تركيا، طلباً للأمان بالدرجة الأولى، ولوجود فرص تدريس هناك في المدارس السورية والدولية”.

ويقدّر عدد المعلمين السوريين المجازين، من الذين يعملون في “المدارس السورية المؤقتة” والمدارس العربية الدولية، داخل تركيا، بنحو 16 ألف معلّم.

وتقدّم منظمة اليونسيف مرتّبات شهرية لما يقرب من 13 ألفاً و340 معلّم سوري يعمل بصفة “متطوّع” في المدارس السورية المؤقتة التي تم دمجها بالكامل في التعليم التركي اعتباراً من السنة الدراسية الحالية.

وتستمر اليونسيف بدفع تلك المرتّبات للمعلمين رغم توزيعهم على المدارس التركية الحكومية بعد الدمج، بصفة معلمين لمبادئ اللغة العربية للطلبة الأتراك، وقسم منهم تم فرزه كمرشد تربوي مساعد ضمن الكادر الإداري في المدارس التركية، في الوقت الذي لا تقدّم فيه المنظمة الأممية –اليونسيف- مرتّبات أو مساعَدات للمعلمين في الداخل السوري المحرر.

يذكر بأن الدوام السنوي الفعلي لطلبة المدارس في إدلب، لا تتجاوز نسبته 42% من مجموع أيام الدوام الرسمية نتيجة تكرار توقف المدارس عن العمل بسبب الغارات الجوية المستمرة، والتي غالباً ما تبدأ باستهداف المدارس ضمن ساعات الدوام.

يتصدر الأطفال في المناطق المحررة قائمة الخسارة الحقيقية في حمى المأساة؛ ويبدو أن أطفال سوريا مصرون على المضيّ في تعلّمهم، وأشجار الزيتون التي يتعلمون بظلّها، وأحذيتهم المهترئة شاهدةٌ على إصرارهم.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*