تداعٍ على باب الشتاء

مسن سوري لاجئ في ألمانيا – أنترنت

ياسمين محمد

في أولى هطولها، تتساقط قطرات المطر على زجاج نوافذ الغرباء لتغسل قلوبهم وتجرف أوراق أيلول المصفرة من حواف أرصفة الطرقات كما جرفت العاصفة جموع السوريين وجابت بهم الأصقاع لتحط بهم في بلاد ما كانت يوما هدفا لهم.

في صقيع الغربة تتحول زخات المطر إلى حبات من البرد والثلج تتراكم فوق ما اصفر من وريقات الخريف، لتبث بعض الفرح لغرباء اعتادوا الحزن وأربكتهم الحياة الجديدة بكل ما فيها.

في تعلق مرضي يرصد السوريون في بلدان لجوئهم أخبار مدنهم، يتابعون الأخبار بلهفة، يتحسسون مشاعر من هناك، ويحتالون بكل وسيلة كي يبقوا على خيط العلاقة موصول، ففي كل أزمة يكثف البعيدون اتصالاتهم متابعين نبض أقاربهم، ثم ليتنفسوا الصعداء بعد زوال الخطر.

يقول السوري في إدلب: هناك بعد قريتين عدو يتربص بنا، يشحذ حقده ليلوك كبدنا، وعلى بُعد سور وسياج هناك جار ماكر، وبعد مسير يوم هناك دول عظمى وجنود بلغات عدة.

لشرق السكة في أبو الظهور وشرق الفرات في رأس العين ونقاط تمركز ومراقبة في مورك وآبار نفط ومشاريع تهدد أمناً قومياً لدول أخرى، قضايا يجتمع من أجلها الكبار لتصبح واقعا بغمضة عين أمام السوري ويا غافل لك الله.

يحار الغريب على حيرة أهله، ويتوه في تحديد الخطر، فالطعنات تكاثرت حتى التبس الأمر على الحكيم، فمن نظام لا يرى بشعبه إلا عبيد إلى نصرة لا تنصر إلا نفسها، وأصدقاء كما الأعداء وقتل بهدف القتل، حتى توقف الكثيرون عن الأمل.

السقوف التي تنام على الصغار مكاتيب العتاب، وأصوات البراميل المتساقطة نايات راعي نسي القطيع، لأصابع القدمين الناتئة من حذاء طفل موحل وقع الفاجعة، والسنين لا تتوقف.

في الجنوب بلاد لا تنام على الضيم، نار تأكل نار، ودم جديد يغطي القديم، ولا سلام يعيد الشباب من أقبية الزنازين، في الجنوب حكايات مؤجلة النشر ونوايا على وشك الانكشاف.

تضج حكومات الدول بضغط الهاربين فتصدر قراراتها المتضاربة ما بين إنسانية مدعاة وأنانية أصيلة، فثمة مليون لاجئ يمكن أن يعودوا إلى أرضهم التي حررها الجار بدم أهلها، وثمة فكرة قديمة لدى البعض قد استفاقت من جديد بأن السوري ليس منا، وأن طعام صغاره مسروق من قوت صغارنا، البعض فرض التأشيرات المستحيلة وأغلق الباب بوجه الصغير حتى نصب الصغير لنفسه أرجوحة على باب مقبرة زاهدا في الحياة.

شتاء مكرر على وجع قديم، وجوع يكدس فوق جوع، وبرد ينخر برد، ولا ضوء يقيت الأمل، فمن للصغار ومن للنساء، ومن للغريب.

في دورة الفصول تلك، ومع سراج يقاوم انطفاء فتيله منذ سنوات، ما يزال هناك من يؤمن بأن النور سيشع يوما ما من جديد، وأن بعد كل خريف وشتاء هناك ربيع مزهر وصيف دافئ مثمر، يجمع شمله بأحبته ولو كان على بقايا مصطبة منزله الريفي في سهرة على ضوء القمر، تعيد ما توقف قبل سنوات تسع، وتخفف من وطأة ما تغير وما فُقِد.

وإلى أن يحين ذلك الربيع والصيف، يبقى الغريب غريبا قلقا طيلة الفصول، يعدُّ الأيام والنكبات، ويجري الحسابات والتحليلات، بينما يبقى السوري الغريب في أرضه، مشروع ضحية لجزاره في كل لحظة، وفي أحسن حال، يكون مشروع نازح لا يدري أنى يحط به وبصغاره المطاف.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*