سراقب تشكي للقدس “ممانعيها”

أسعد كنجو

من الصعب رؤية العناصر الإيرانية والميليشيات الفلسطينية تحتفل بيوم القدس في سراقب التي دمروها، دون أن أستعيد مشهدا من طفولتي، راكضا إلى أمي ”أبشرها“ بعملية فدائية فلسطينية ضد جنود الاحتلال، في تلك الأيام لم تكن تعني لي تلك العمليات أكثر من سعادة أمي وحصولي على ”البشارة“ التي كانت تتناسب طردا مع عدد القتلى الإسرائيليين أو عدد الصواريخ التي تم إطلاقها على إسرائيل.

قاومت التذكر إلا أن الذاكرة تخونك بشكل آخر أحيانا وتجبرك على تذكر ما ترغب بدفنه إلى الأبد.

تصر على استدعاء أجواء بيتنا حين ينقلب إلى ما يشبه العزاء عندما تسمع أمي خبر مقتل أحمد ياسين أو ترى مشاهد أشلاء الأطفال في غزة.

تستلذ الذاكرة باستنباط دموع العجز والحسرة المدفونة، حين تستحضر صوت مؤذن جامع سراقب  تخنقه دموعه وهو يحث على الدعاء لفلسطين عند كل هجوم إسرائيلي.

 من الصعب لجم الذاكرة عن استحضار أفراح وحماسة أبناء مدينتي الصغيرة والبهجة التي كانت تعم مع كل ”كمين“ و ”عملية نوعية“ تنفذها سرايا القسام وأخواتها.

من الصعب أيضا عدم تذكر أمي تحملني مبلغا ”ضخما“ من المال بالنسبة لطفل، أذكر أني قضيت الطريق إلى مدرستي قابضا عليه داخل جيبي حتى سلمته للـ ”موجه“ الذي كان يجمع التبرعات ”لدعم فلسطين“، لاحقا عرفت أنها كانت تذهب لدعم فرع فلسطين.

شخصيا كولد شقي لم أتبع الكثير من وصايا أمي، قضية فلسطين لم تحضر بوجداني بقوة كما كانت حاضرة بالنسبة لكافة رفاقي وأصدقائي، إلا أن رمزيتها لم تتعرض للتشويه من قبل دماغي الذي  استهوى تلك الفترة التمرد على كافة المسلمات والقضايا ”المحورية“ و ”التاريخية“ و ”المقدسة“، كل ما هنالك أني ابتعدت عنها وعن أخبارها، لكني بقيت معجب بشكل مبالغ فيه بالفلسطينيين. وتوددت لهم لأكسب صداقتهم حين انتقلت إلى حلب، تمردهم ونضالهم (وإن كان قد أضاع السياسيين بوصلته) كان كاف لاحترامهم.. والتعلم منهم.

أمي الآن مهجرة من بيتها الذي ذكرت فيه اسم فلسطين والأقصى أكثر مما ذكرت اسم سوريا، هجرها نظام الممانعة (في طريقه إلى القدس)، أعلم أنها لا تزال تدعي لفلسطين في صلواتها كما عهدتها تفعل منذ أن بدأت أفهم دمدمات صلاتها.

لكن أنا حقا محطم، ما يجري تجاوز سخريات القدر ومفارقاته البشعة، أحزن على المهجرين الذين رفعوا علم فلسطين على أسطح منازلهم البسيطة والمدمرة حاليا، وكلهم (نعم كلهم) في شبابهم سعوا لطريقة توصلهم لفلسطين لمقاتلة الإسرائيليين، لكن نظام المقاومة والممانعة أختصر عليهم الطريق وأرسلهم إلى فرعها في دمشق.

هذا اليوم يتم الاحتفال به منذ ثلاثين عاما. فقط لنرى خارطة فلسطين منذ ثلاثين عاما وخارطتها اليوم.

هذا اليوم ليس ”رمزيا“ لإبقاء فلسطين في ”وجدان الشعوب“، بل من الوقاحة الادعاء أن هذه الشعوب كانت بحاجة الخميني وحثالاته اللاحقة للحفاظ على فلسطين في وجدانها، هذا اليوم ليس أكثر من خدعة سخيفة ومستفزة واستغلال نبل المشاعر التي تكنها الشعوب لفلسطين والقدس.

تكمل الذاكرة جلدها بسخرية، هذه المرة تذكرك بالشبه الكبير بين الاحتفال بيوم القدس وحلقات الرقص والدبكة التي يعقدها شبيحة النظام السوري بعد كل قصف إسرائيلي على دمشق.

تقضم إسرائيل مزيداً من الأراضي الفلسطينية، وتطرد المزيد من بيوتهم، فيرد القطيع بالاحتفال بيوم القدس على خراب بغداد، توغل إسرائيل بالدم الفلسطيني وتقضم المزيد من الأراضي فيأتي الاحتفال بيوم القدس على أطلال صنعاء ثم أطلال لبنان ثم أطلال حلب ثم أطلال بيوت مدينتي التي كانت جدرانها تتزين بعبارات وقصائد محمود درويش.

أنا فقط أقول إن كان الممانعجيين يصدقون أنه سيأتي يوم يحتفل به نظام ”الممانعة“ في القدس فلأخبرهم أنه لن يكون إلا على أطلال القدس وأهلها (لا قدر الله).

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*