حول سراقب

image_10109_ar

أواخر الستينات كانت سراقب من حيث التقسيم الإداري ناحية تتبع لمحافظة ادلب وعدد سكانها لا يتجاوز 5000 نسمة يخترقها من الطرف الغربي طريق حلب ـ دمشق القديم وعلى طوله فيما عُرف ( خشب التلفون)

وكانت في وداعها الأخير مع أغلب بيوتها الطينية وقليل من البيوت الحجرية القديمة، ومن أهمها ما كان يُعرف بالمسجد الكبير أو مسجد السوق بعد أن أكل روعته رأس المال، كانت المنازل متواضعة وأغلبها لم تكن مسوّرة، وعلاقات سكانها علاقات ريفية بسيطة منفتحة بحيث يشرف كل بيت على جميع بيوت الجيران من حوله وتستطيع بيسرٍ أن تدخل أيّ منزل وتجالس من فيه ذكوراً واناثاً ، أهم مدارسها كانت ( عمر بن الخطاب الزراعية ومدرسة ميسلون ومدرسة أمية /جانب الأوضة/ وثانوية واحدة هي ثانوية أحمد الحسين ).

استفادتْ سراقب في تطورها في السبعينات من طريق حلب ـ دمشق الجديد الذي يخترقها من الشرق وطريق حلب ـ اللاذقية الذي يحدّها من الشمال ،وطريق باب الهوى الذي يحدّها من الغرب، وبذلك تكون عقدة المواصلات الأهم في سوريا.

وبفضل ما تمتلكه من أراض ٍزراعية خصبة والمَكْننة الجزئية للزراعة بدأت أوضاع السكان تتحسن تدريجياً وبدأ الانتقال من ما يشبه اقتصاد المشاعة البدائية أي( مبادلة السلعة بالسلعة) مما تنتجه الأرض واكثر الأحيان أخذها مجانا.

بدأ اقتصادها يتحول إلى اقتصاد مدنيّ إن أسعفني المصطلح، كانت أحوال الناس من حيث المأكل والملبس شبه متساوية رغم التفاوت بالثروة وذلك لأن المطروح في السوق يكاد يكون واحد، في هذه الفترة عرفت سراقب الكثير من النشاطات السياسية ابتداءً من الحزب الشيوعي السوري إلى حزب البعث إلى حزب الاتحاد الالشتراكي التابع لجمال عبد الناصر وكانوا هم الأغلبية.

مع دخول الإسلام السياسي فيما عُرف بتنظيم الاخوان المسلمين  بدأت تطرأ على الحياة الاجتماعية بعض التغيرات وأنا هنا لا أصدر حكم قيمة وإنما أوّصف واقع حال، مع ازدياد عدد السكان بدأت تتغير كثيراً من المفاهيم… سوّرتِ البيوت وبدأت بوادر الفصل بين الجنسين.                                                                             

 مع ظهور الفساد بعهد الطاغية الأب والسياسة التي اتبعها لإفقار المجتمع السوري تردت أحوال الكثير من السكان و تحت وطأة الفقر كان لابدّ من البحث عن موارد أخرى للعيش.

فكان الانفتاح الكبير المنقطع النظير على المملكة العربية السعودية للعمل في حفر الآبار الارتوازية حيث سافر الكثير وعادوا بمردودٍ ماديّ لابأس به و على أثرها بدأت سراقب تشهد تغيرات على كافة الصعد منها الإيجابي ومنها السلبي فقد غادر الكثير من الطلاب وحتى الأساتذة مدارسهم بغية العمل هناك وظهرت شريحة من محدثي النعمة الجدد، والذين أغلبهم لم يوظفوا ما عادوا به من أموال في انشاء مشاريع إنتاجية تعود فائدتها على عامة سكان البلد وذلك لأن الذهنية الريفية كانت هي الغالبة على الكثير منهم بدل من الذهنية الاستثمارية المدنية.

بل إن الكثير منهم بدّد أمواله في هدم قيم المجتمع و نتج عنه ارتفاع جنوني في جميع المواد حيث أصبحت المواد الأولية في سراقب أغلى سعراً حتى من محافظة ادلب.

وشمل هذا التغير حتى الزي الشعبي الذي كان سائداً حينها حيث غاب بالنسبة للأنثى الثوب السراقبي الجميل المزركش والمحزم لتحلّ محله العباية السوداء.

 كذلك بالنسبة للرجال أصبح لدينا في سراقب (خياط خليجي ) حتى في المأكل فقد أصبح الناس يتفاخرون ويعشقون أكلة الكبسة ناهيك عن السيارة السعودية وما تركته من آثار سيئة في نفوس أغلب محدثي النعمة.

وارتفعت أسعار المهور بشكلٍ جنونيّ وأصبح الموظف في الدرجة الخامسة بكل المعاني قياساً لمن كان يعمل في السعودية، أمّا الفائدة الأهم التي أتت مع رأس المال الوافد من السعودية هي في مجال الازدهار العمرانيّ اذ بدأت سراقب تشهد حركة نشطة جداً في هذا المجال استفادت منها كثير من الأيدي العاملة.

وبعد انسداد آفاق العمل في السعودية ومع تزايد الافقار الذي مارسه نظام الطاغية على المواطنين بدأ الشباب في التفكير بموارد مالية أخرى والسفر إلى دولٍ عربية وأوربية وحتى أفريقية.                                                                             

كان لموقع سراقب الجغرافي وانفتاحها على ريفٍ شرقيّ واسع أثرٌ كبير في تطورها من الناحية الاقتصادية فهي سوق تصريف وتصدير لهذا الريف.                                                                            

بدا هذا الأثر واضحاً بفرضه توسعاً عمرانياً وتجارياً ومهنياً على الريف الشرقي ،   لمجمل الأسباب الواردة لم تستطع سراقب ان تطلّق ريفيتها بشكلٍ كامل ولا أن تتزوج المدينة بشكلٍ كامل وعانتْ من مرحلةٍ انتقالية متعسرة وذلك لأن أيّ مرحلة انتقالية في طبيعة الحال لها عثراتها.

وثانياً ان مرحلتها الانتقالية تزامنت مع وجود نظام قمعي استبدادي لا يمكن ان يتم في ظله تحولات اجتماعية صحية وسليمة أي ليس بمقدوره التأسيس لمدن بالمعنى القيميّ والحضاري.

وبدا أغلب من يعيش في سراقب بما توفر له من مظاهر الحداثة الشكلانية ينظر إلى الغرب لكن ارثه الاجتماعي من  الناحية الوجدانية ومرجعياته القيمّية تشده إلى الشرق.                      

بالإضافة لكون سراقب عقدة المواصلات الأهم فهي تنفتح على ريفٍ شرقيّ واسع، هذا الموقع الجغرافي كان له أثر هام في نشاطها الاقتصاديّ، فقد استقدم هذا النشاط عدداً كبيراً من الأيدي العاملة من القرى المجاورة  وأغراهم على الاستيطان فيها وبخاصة من الريف الشرقيّ، فيما أطلق عليهم أهالي سراقب (البلاّشة)، وباعتقادي أنها كلمة جائرة ومعيبة بحقهم، فصحيح أن قليل من هذه العائلات نزحت إلى سراقب بعد جريمة اقترفتها في قريتها الأمّ إلاّ أن أغلب هذه العائلات استوطن في سراقب طلباً للعمل والرزق نتيجةً لسوء الأوضاع الاقتصادية في قراهم الأمّ.

استوطن هؤلاء الوافدون في محيط المدينة ومع مرور الزمن أصبحوا من مكونات النسيج الاجتماعي في المدينة.                     من ناحية أخرى استوطن في مدينة سراقب عدد غير قليل من ( القرباط) وكانت لهم حاراتهم الخاصة بهم، لكنهم لم يتداخلوا مع النسيج الاجتماعي للمدينة وبقوا يشكلون حالة خاصة بهم إلى حدّ كبير، وذلك لأسباب عديدة، فالنظرة متبادلة بينهم وبين سكان سراقب على أن كلاًّ منهم ينتمي إلى قومية مختلفة، وإن كان (القرباط) يتكلمون اللغة العربية بالإضافة إلى لغاتهم الخاصة، ويدينون بالديانة الإسلامية على الأقلّ هذا المعلن منهم، وقد حصل البعض منهم على الجنسية السورية لأنهم متعصبون لقوميتهم من حيث المصاهرة والزواج، وكذلك علاقاتهم الاجتماعية المنفتحة أكثر وليس هنالك أيّ فصل في ثقافتهم بين الجنسين.                                                                                 

ينظر غالبية أهالي سراقب إلى ( القرباط) نظرة دونية بالمعنى القومي والمعنى الاجتماعي فهم في نظر الكثير من أهالي سراقب متسيبون بما يخص العلاقة بين الجنسين وفي اعتقادي أن ( القرباط)  هم اللون الثاني الذي أُضيف إلى اللون الواحد لسكان مدينة سراقب.                                              

عموم سكان سراقب من المسلمين السّنة الغالبة عليهم صفة الاعتدال، ولم تظهر إلاّ حالات قليلة جداً من التطرف من الناحية السياسية، تكاد تكون سراقب من المدن الأولى في محافظة إدلب إذ أنها عرفت تاريخياً كل أنواع التيارات السياسية المعارضة من اليمين ومن اليسار وبما فيها الوسط.

في أواخر السبعينيات انتفض أهالي سراقب انتفاضة عفوية فيما عُرف بأحداث ( محولة الكهرباء) وداهمت حينها قوات حفظ النظام واعتقلت عدداً من أبنائها.

وفي أحداث الثمانينات اعتقل عدد من شباب سراقب وغُيّبَ بعضهم في سجن تدمر وفرَّ البعض منهم إلى دولٍ أخرى، كذلك قدمت سراقب بعض المعتقلين من اتجاهات سياسية يسارية ويمينية .                      

أثناء الغزو الأمريكي للعراق كانت سراقب أحد أهم مراكز انطلاق                       

المتطوعين لقتال القوات الأمريكية في العراق وبإشراف مباشر من قوات الأمن السورية وقدمت سراقب بعض الشهداء.                                                

في الثورة السورية الأكبر كانت مدينة سراقب من أوائل المدن التي شاركت في الحراك السلمي وكانت مركز تجمع المتظاهرين من أبناء الأرياف المحيطة بها، و مع عسكرة الثورة السورية حمل أهالي سراقب السلاح للدفاع عن أنفسهم، اقتحمتها قوات النظام أكثر من مرة إلى أن تحررت وكانت من أوائل المدن المحررة، شارك ثوارها وما زالوا في أكثر المعارك التي كانت تدور في محافظة ادلب والمحافظات الأخرى وكغيرها من أخواتها السوريات فقد تلقت عدداً غير قليل من القذائف من كل أنواع الأسلحة حتى الكيماوي والبراميل، ممّا ألحقَ بها ضررٌ غير قليل من الناحية المادية وقدمت عدداً غير قليل من أبنائها قرباناً للثورة السورية.

أسعد شلاش