سقط صريعا

406243_335297539894210_1936750389_n

 

سقط صريعاً أو هكذا يقولون ، و لكن بين استقرار الرصاصة في رأسه
وبين استقرار جسده على الأرض ثلاثين عاماً .
ولد محمد في بيت متواضعٍ من بيوت إحدى العشوائيات، لم يكن ذاك المولد المميز، و لم تكن لعائلته ما يميزها . .
_ مبروك إنه ذكر .
هكذا قالت القابلة أم سعيد عند ولادته ، صرخ و بكى ككل الأطفال و تألمت أمه كثيراً ، و كان لولادته وقعٌ مختلف على أبيه عن ولادة أختيه السابقتين فهو ذكر ، فلعله يكون سنداً للعائلة .
أبو محمد لم يكن عادياً كعائلته أو كأيامها أو كأي شيء أحاط بها ، كان حديديَ الجسد ، فولاذيَ الهمة ، كان يعمل ليلاً نهاراً ، نهاراً عمل في معمل من معامل البلاط المنتشرة في المنطقة ، أما ليلاً فقد اعتاد أن يكون وحيداً كحارسٍ ليلي لإحدى دوائر الدولة ، لم يكن حال العائلة يسمح لأبي محمد أن يمرض ولو ليومٍ واحدٍ ، فعائلته تأكل من رزق كل يوم من أيام المعمل ، أما راتب الدولة فهو مخصصٌ لدفع أجرة المنزل و تأمين احتياجات الأسرة من ملبس و دواء .
في السنة الثامنة من عمر محمد أصيبت أخته سميرة إصابة بالغة جراء حادث الحافلة المدرسية في إحدى رحلاتها إلى الريف ، مما اضطر أبو محمد أن يبيع قطعة أرض صغيرة كان قد ورثها من أبيه ، وقد كان لهذه الحادثة أثرها الكبير على نفسية محمد والتي شاهد أبوها مغموماً مكسوراً للمرة الأولى في حياته .
توقف محمد يوماً أمام متجر الدمى في ثالث أيام عيد الأضحى هو و والده ، نظر طويلاً إلى لعبة من ألعاب المتجر ، تأملها و سرح في خياله و صار يتحرك و كأنه يحرك الطائرة المعدنية في السماء وهو يصدر صوت هديرها .
_ بابا أريد هذه ” و أشار بسبابته للطائرة ” .

_ بابا حبيبي أصبحت رجلاً و أنت الآن بعمر العشر سنوات .

_ ولكني أريدها .

_ لا فائدة منها يا ولدي … هيا بنا تحرك فلنعد إلى المنزل أمك تنتظرنا .

لم يكن لهذا الحوار أي اثرٍ مباشرٍ على حياة الطفل ، فإنه و كأي طفل عاد إلى منزله و صنع من مساند غرفة الاستقبال قصراً و استخدم أدوات المطبخ و كأنها أسحلة و مدرعات ، و لكن هذا الحوار حُفر في ذاكرته ليعود إليه بتأثير لاحق في فترات أخرى من حياته ..
فعندما غدا مراهقاً ، كان كلما تشاجر مع والديه صرخ قائلاَ :

_ لااااا … فائدة منها يا ولدي …….. لا فائدة منها يا ولدي “يعيدها ممطوطة الأحرف ” .

ولكن ما كان لمحمد أن يعرف بأن أباه كان عندما يجلس وحيداً عند مناوبته كبواب يذرف الدموع طويلاً كلما تذكر نظرة حزينة لأحد أبنائه الأربعة بسبب تقصيره معهم ، و أنّ لمحمد أن يكتشف ذلك لولا أن أصبح أباً و أصبح يبكي وحيداً كلما قصّر هو الآخر
في سن الخامسة و الأربعين أصاب أبو محمد شلل نصفي بسبب تجلط في الدم ، مما اضطر محمد أن يترك الجامعة في سنته الأولى ، فقد غدا الممول الوحيد للعائلة حيث أن أخاه لا يزال صغيراً على أن يعمل و يساعده في الرزق ،وما أن حدث ما حدث حتى توجه على الفور إلى جاره( أبو صفوان )حداد المنطقة ، فقد كان أجيره في كل صيف .
و كغيرها من قصصه الطويلة لم تترك أي أثرٍ إلا عندما أنجب محمد بعد سبع سنوات ابنه الأول سعيد .
_ حبيبي .. أنت ستكون أول طبيب في العائلة ” قالها محمد و هو يحتضن ابنه الرضيع”
_ يا حسرة ” قالتها أم محمد بغصة كبيرة و دمعة في العين ، بعد أن استشعرت ألماً في قلب ابنها لأول مرة بسبب تركه للدراسة ” .
_أسرع يا حيوان .
هذا هو الاستقبال الذي حظي به محمد في دورة الأغرار عند باب الدخول ، عامان طويلان مرّا على محمد ، بلغ السادسة و العشرين ربيعاً و لم يذكر يوماً بأنه أهين بهذا القدر الكبير من الإهانات ، لم تكن خدمته مريحة أبداً و لعل التمايز في المعاملة هو ما آذاه و ليس الضرب أو الشتم الدائم .
سعى جاهداً ليكون مهذباً مطيعاً في الخدمة الإلزامية لعله ينهي الخدمة من دون مشاكل ، فقد قابل الشتائم بالابتسامة و الإهانة بالمديح و التمايز بالحنين .

ثلاثون عاماً لم تكن كما بدأت عادية ، كانت ثقيلة فقيرة ، حاول أن يعوض أطفاله ولو قليلاً مما فاته في طفولته ، حارب طويلاً ليبقي الابتسامة على وجهه دائماً ، أحبَّ أمه و أباه و إخوته و عائلته ، ولم يكن ليتأفف في وجه أحدهم كما كان أبوه لا يتأفف ، ملأ جيبيه بالأمل إذ لم يستطع أن يملأها نقوداً ،و مع كل الألم و الحزن الذي كان ثقيلاً على كاهليه إلا أن وجهه كان مبتسماً عندما قبلته أم محمد قبلة الوداع ، لم تكن ابتسامته هذه لأنه استطاع أن يتأقلم مع فقره ، أو لأنه استطاع أن يبتاع لابنته الدمية التي طلبتها منه منذ أشهر و استطاع إسعادها ، أو لأنه لم يسرق كما سرق الكثير ، أو أنهى الخدمة من دون أن يُبزق على وجهه كما بُزق على الكثير من زملائه ، و لكن فقط لأن آخر ما قاله هو :

_ الله …. سوريا …. حرية …. و بس

“حدثت هذه القصة في إحدى المدن السورية منذ ثلاثة أعوام. “

مضر عدس