عندما يعود المقاتلون من المعركة..حوار مع مقاتل

12744328_1029784240425929_4505433709835866173_n

زيتون – نبيل الدمشقي

عندما يعود المقاتلون من المعركة، فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا من أسئلة، كم غنمتم، ماهي نتائج المعركة، كيف تمت،؟؟.. إلخ.
وهذا وذاك إلى ما هنالك من الأسئلة التي تتعلق بمعطيات المعركة وأحداثها، وهذا أمر طبيعي في فترات الحروب، حيث تتغير اهتمامات الناس وأسئلتهم وتعليقاتهم.
لكن ثمة جانب آخر لا يمكن إهماله، وكثيرا ما يسقط من حيز أسئلتنا و وهو أن المقاتل قبل كل شيء بشــــر، له حواسه، وآلامه، وأحلامه، له أحبة يودعهم على أمل أن يعود ويلتقي بهم، ولتسليط الضوء على هذا الجانب من حياة المقاتل، كان لابد من حوار احد المقاتلين، وذلك كي تكون هذه الإضاءة حقيقية صادقة.
(أبو الجود)، أحد مقاتلي سراقب الأحرار، لم يكن ليخطر بباله يوما ًما بأن يصبح مقاتلا ً. أبو الجود طالب جامعي عانى الكثير من استبداد النظام وجوره بحق الطلبة، حتى تفسخ حلمه القديم بأن يدرس الدكتوراه وصار همه: (شلون بدي اتخرج.؟).
كيف أصبح أبو الجود مقاتلا ً..؟؟ تعالوا نتشارك معه كاس شايه الفاتر  ونتعرف منه مباشرة على الظروف التي جعلت منه مقاتلا ً.
أبو الجود، أنت الآن مصاب، لذلك أعتقد أنه أصبح بإمكانك مشاركتنا شايك، ونتمنى أن نشاركك استراحتك الإجبارية و بعيداً عن انفعالات المعارك.
في البداية لابد ان أسألك سؤالا ً بديهيا ً، كيف أصبحت مقاتلا ً..؟؟
يبتسم..
كانت البداية حيادية، ظروف الجامعة، القبضة الأمنية على الطرقات وأسباب عديدة منعتني من الالتحاق بصفوف الثورة، لكن كل هذا يغدو بلا معنى حين تفهم ما يحصل حولك، بدا كل شيء صحيحا ً الرصاص يمطر على المتظاهرين، المطالب المشروعة، أغنية سميح شقير (يا حيف)، وكل انتقادات أصدقائي لي وللوضع، كل شيء بات واضحا ً للعين.
لم تصور بأن حكومة مسؤولة عن أمن مواطنيها يمكن لها أن تقوم بقتله، وكان غريبا ً عليّ أن يقوم جيش مهمته حماية الوطن والمواطنين والوقوف بوجه إسرائيل، أن يسلط جام غضبه على شعب تغنى به طوال سنين!!
راحوا يتعاملون معنا كقطعان خراف في مزرعة، لا قيمة لأرواحنا لديهم، هنا فقط لا تستطيع الوقوف بحياد، لا حياد مع الظلم، فالظلم مرفوض بمقاييس كافة العقائد و الأعراف و فكيف به إذا وصل لحد القتل؟؟!!.
كان بداية تعبيري الغاضب، الرافض لهذا الواقع، بالقرب من محمد حاف، ومحمد الأطرش أبو أسعد وغيرهم من شباب الشرف والكرامة، حين قمنا بحرق الحزب وطرد من كانوا فيه. حينها كان شعارنا (نحن الحرقنا الحزب ونحن الهدّينا ساسو.. وبدنا نشيلوا لبشار وحرجي علي يرفع راسو..)..
تسبقنا الضحكة بضع ثواني.. شفة من الشاي ويتابع أبو الجود قائلا ً:
بعد أشهر من المظاهرات السلمية، لم يكن بالإمكان ان نبقى مكتوفي الأيدي نراقب إخواننا وهم يذبحون بالرصاص، والقذائف، ولم تعد قلوبنا تتحمل رواية الأحبة الذين يعودون أحياء من السجون، أو يعودون جثثا ً هامدة، وقد كتبت فوق أجسادهم اللينة رسائل الحقد والقهر والتعذيب، هنا كان لابد لي أن ألتحق برفقة الدرب و السلاح.

– إذا مادفعك لحمل السلاح و هل هو دافع إنساني..؟؟
نعم، هو الاحساس بواجب الدفاع عن المظلومين، والمقهورين

أسأله، هل كان لهذا الدافع تأثيراً على أخلاقك القتالية ؟
أقصد هل تحاول أن تتجاوز حتمية القتل للطرف المقابل و بمنحه فرصة للاستسلام والتخلي عن دوره كعدو، وخصوصا ً أننا نعرف جيدا الظروف المحيطة بالجندي السوري، فهو من أبناء هذا البلد؟
بالتأكيد فنحن قبل كل معركة نعطي فرصة لهم لترك مواقعهم والانشقاق، وقد حصل هذا كثيرا ً، وكانت لهم معاملة خاصة، منهم من كان يساعدنا بإعطائنا معلومات، ومنهم من كان يهرب ويلوذ فارا ً لبيته، ومنهم من تتم محاكمته إذا ثبت تلطخ يديه بالدم. نحن نقدر قيمة النفس البشرية، لسنا من هواة القتل، نحن ندافع عن حقنا في الوجود الكريم، ولسنا مجرمين كما يدعي النظام، لسنا مجرمين (تغطي وجه أبو الجود دموع من الذاكرة)، السبب المباشر الذي دفعني لحمل السلاح دخول الجيش الأسدي لسراقب و ذاك المشهد العالق بذاكرتي و الطريقة التي قتل بها سعد باريش الذي لم يكن يحمل سلاحا ً، شتموه، سحبوه على الأرض، أذلوه، طلبوا منه أن يصيح بأن بشار ربه، لكنه أبى وبقي يردد قائلا ً: الله ربي.. الله ربي. ذكرني ببلال الحبشي وهو يتعرض للتعذيب، أوووف بس، هل يا ترى سنبقى نقول لهذا القاتل الوحشي.. (سلمية)؟، ماذا بقي لنا كي نكون مسالمين..؟ البلد دمر و الأعراض انتهكت، الدماء سالت، ماذا بقي لنا..؟؟
أبتسمت له قائلاً: أبو الجود أشعل سيكارة..
عفوا َ لا أدخن (يبتسم).
أعرف لكن أشعل سيكارة.. ربما تخفف من توترك..
ضحك أبو الجود.
ممكن في حوار تاني معي تعلمني التدخين.
يمكن..
أبو الجود، ماهي الأمور التي تخطر ببالك وقت المعركة و في لحظة هدوء عابرة، من هم الأشخاص الذين تذكرهم؟
أمي، لا يغادرني وجهها، لا يغيب بريق عينيها عني، أتذكر الجميع، أبي، أخوتي، لكن وجه أمي يسيطر على الموقف، أشعر بتواصل قلبي معها، وهي تشعر عندما أصاب، مرتين حدث معها ذلك.

تتمنى أن تعود لأحبتك.. أم تتمنى الشهادة..؟
الشهادة شيء عظيم، قيمة سامية و أتمناها كثيرا ً، لكن ما يزال الوقت باكرا ً لنيلها أمامي عمل طويل إذا شاء الله، الشهادة غاية لحياة كريمة شريفة، لكن أن أعود لأحبتي – دون أن يؤثر هذا على واجبي كمقاتل – شعور يمنحني القوة ويحميني من الضعف، هم بحاجتي، (المشوار مطوّل).

في زحمة الموت و عندما ترى رفاقك يستشهدون، هل تشعر بأن الموت أصبح عاديا ً؟
لا، كلما استشهد أحد أخوتي، أشعر بان جزءً من قلبي قد انفصل عني، يحترق على فراقهم، لقد أصبح في قلبي الكثير من البقع السوداء، حاف، أمجد، سعد أبو زيد، عبد القادر، معاذ، وغيرهم و غيرهم.. معظمهم فارق الحياة أمام عيني، إنهم أحبة يصنعون لنا الحياة باستشهادهم. وينيرون لنا الطريق لنكمل السير للهدف.

أبو الجود، تكون لي انطباع من خلال ترتيب غرفتك، وأشيائك الصغيرة، أنك شخص رومانسي
(يبتسم خجلا ً) هل تجتاحك هذه الرومانسية خلال المعركة..
ممم بصراحة، أحيانا حين يتاح لنا التنفس، أفتش بنظري ومن حولي على وردة برية، أنظر إليها، أشم رائحتها، والليل والقمر صديقان محببان، حينها تستشعر وجود الله، معك تستشعر رحمته، تستشعر السكينة، وينتابك شعور بان كل هذه التفاصيل تقاتل لجانبك، وتغطي جرحك ونزفك. بصراحة شعور لا يمكن وصفه حين صادفني الثلج خلال أحد المعارك، كنت أشعر ببياضه، رغم رائحة الموت والبارود، كنت أشعر أن الأبيض .. اللون الأجمل كانت السماء بيضاء، الأرض بيضاء، الابتسامة بيضاء. وحتى القلوب بيضاء، وأحلم أن يصبح لون المستقبل ولون قلوبنا أبيضا ً كالياسمين.

ماذا تقول للذين مازالوا يقاتلون بصفوف النظام..؟
أقول لهم: طهروا أنفسكم، وعودوا إلى إنسانيتكم، وفّروا علينا المزيد من القتل و الدم، موقعكم ليس هناك خلف المدفع، بل هنا داخل قلوب الناس و أحلامهم، إن متم، متم شهداء، إن عشتم فنعما العيش والكرامة، وفروا علينا المزيد من الألم، (بيكفّي ظلم، ببكفّي دمار).
أبو الجود، في حال انتصار الثورة، هل ستلقي سلاحك..؟
نحن منتصرين، والسلاح ضرورة مرحلية، هنالك عمل كثير من البناء والتنظيم وإعادة الهيكلة والتأسيس ينتظرنا بعد سقوط النظام، يجب أن نجدد بناء سوريا، ونعيد بناء الإنسان، ونعيد ترتيب الطفولة، وهذا الكلام على كافة الأصعدة.

أبو الجود ما أول فعل يخطر ببالك القيام به بعد انتصار الثورة، والعودة إلى الحياة الطبيعية..؟
أن اذهب بشمارية (نزهة) أنا ورفاقي إلى كروم الزيتون المحيطة بسراقب، وأجلس تحت شجرة زيتون ملامسا ً بجسدي التراب الطاهر.. وأن نجمع بعض أعوادها اليابسة، ونوقد بها نارا ً، ونعمل جيدان (إبريق) شاي على الحطب، ثم أرتشف شفة واحدة ولاشيء يقلقني كما كنت سابقا ً.. إذا تمينا عايشين طبعا ً.
بدون سيجارة..؟؟
أضيف أنا، يضحك أبو الجود..
على كيفك يا سيدي..
كلمة أخيرة.. أبو الجود
هي لله و هي لله، لا للسلطة، ولا للجاه..
أبو الجود. شكرا ً لك، وأتمنى لك ولرفاقك أن تعودوا لشرب الشاي قريبا ً، في كرم الزيتون.