أيتام سوريا.. حكايات لم تحكَ بعد

من إحدى دور رعاية الأطفال في تركيا – صحيفة ياني شفق

زيتون 

يُغرِق أحمد (11عاماً) وقته غالباً بالرسم، فتراه منكباً على دفاتره وأقلام تلوينه محاولاً الهرب من واقعه إلى واقعٍ أفضلَ يُجيد رسمه وتلوينه بمهارة، فتارةً يرسم  لوحة لمنزل ذو باحةٍ واسعة تحيط به أشجار كثيرة، كصورة البيت الذي يحلم أن يعيش تحت سقفه، وتارةً يرسم أب ممسكا بيد ابنه، وإذا ترك أقلامه وانفضَ عن  هوايته ظل شارد الذهن منعزلاً عمن حوله.

انتقلَ أحمد  مع والدته وإخوته إلى  تركيا بعد وفاة والدهم  قبل أربع سنوات، لتكون إحدى  دور الأيتام سكنهم الجديد. لم يستغرق أحمد الكثير من الوقت حتى أدرك أن الحياة لن تعود لبساطتها السابقة وأنه لن يعود أبداً ذلك الطفل الغارق باللهو والرسم، وسرعان ما تحول إلى رجلٍ صغير يحمل هموم العالم في قلبه.

“سوف يتم إبعادي  عن والدتي وإخوتي  بعد أقل من سنة ولا أدري إلى أين أذهب، تحاول أُمي إيجادَ فرصة عمل أو حل يجنبني البعد عنهم. فوفق قوانين الدار التي نسكن فيها، فإنه يتوجب على الأولاد الذكور مغادرة الدار حين بلوغهم سن الثانية عشر “.

لا تختصر بداية حديث أحمد كل مشاكله فيقول: “ليس هناك مكان نذهب إليه أنا وأمثالي من الأولاد الذين يعيشون في دور الأيتام، وليس من السهل أن تحيا في بيت لا تملك فيه حرية الحركة والعيش، ومع هذا فأنا سأخسر السكن فيه والبقاء قرب أسرتي”.

تروي والدة أحمد كيف دخلت الأراضي التركية لتقيم في بيت أمهات الأيتام، وتشاركت العيش مع أسر أخرى، وحين بدأت الحياة تزداد صعوبة نتيجة العيش المشترك بادروا بالطلب من إدارة الدار أن تستقل كل أسرة في سكنها على أمل أن تتمكن من الاحتفاظ بطفلها، لكن شروط الدار كانت واضحة منذ البداية ما جعل مطالبهم دون جدوى.

أم أحمد وأسرتها هي واحدة من أصل 83 ألف أسرة فقدت معيلها في سوريا بحسب اليونيسيف، كما أكد فريق استجابة سوريا في تقرير له عام 2018 أن هناك نحو مائة وتسعين ألف يتيم في الشمال السوري فقط وما يقارب ستة وثلاثين ألف أرملة، (يقصد بالشمال السوري محافظة ادلب وريف حلب الغربي وريف حماة الشمالي، ما عدا مناطق درع الفرات وغصن الزيتون).

مشاكل الأطفال النفسية في دور الرعاية

مشرفة إحدى دور الأيتام في مدينة الريحانية “عبير هاشم” ترى أن أكثر ما يحتاج إليه الطفل اليتيم هو الاحتواء النفسي والاجتماعي نتيجة للاضطرابات المعنوية التي يكابدها بعد خسارته لأحد الوالدين أو كليهما.

وتوضح المشرفة بأن الخدمات التي تقدمها دور رعاية الأيتام في جنوب تركيا ليست شاملة، فرغم توفير الدعم المادي والرعاية الصحية والتعليم والأساسيات من مستلزمات الحياة كالمسكن والغذاء، إلى جانب بعض النشاطات الترفيهية والثقافية، إلا أنها تفتقر للتغطية النفسية للأطفال الأيتام، التي تمكنهم من التعبير عما يشعرون به، وتعيد إليهم الاستقرار العاطفي لتجاوز خسارته، مؤكدة أنها رصدت خلال تجربتها في دور الأيتام العديد من المشاكل النفسية أولها بحث الطفل وحاجته إلى من يستمع إليه ويمنحه الوقت اللازم الذي يسمح للطفل بالبوح بمكنونات نفسه.

وتضيف المشرفة:

“إن حاجة الطفل للأمان والانتماء إلى أشخاص يشعر بحمايتهم وتفهمهم هي خطوة أولى في طريق سلامته النفسية، والاكتفاء بتقديم السكن والطعام هي طريقة قاصرة عن فهم حاجات الطفل اليتيم.

وحذرت الهاشم من الازدواجية التي قد يعيشها الطفل في دور الأيتام ما بين الدروس والقيم المثالية التي يتلقاها وبعض الممارسات التي تتجاهل ذكاء الطفل وحساسيته.

وتعتبر المشرفة أن لدور الأيتام آثار سلبية منها الفقد والحرمان العاطفي، وانخفاض تقدير الذات لدى الأطفال نتيجة لعيش الأطفال مع أسرهم تبعا لقوانين دور الرعاية، وهو ما يفرض عليه العيش بعدة شخصيات متعددة لإرضاء القائمين على تلك الدور.

وقدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدد الأسر التي فقدت معيلها بنحو 82 ألف أسرة، كما فقدت 2300 أسرة أمهاتها، كما تؤكد منظمات إنسانية أن نحو 90 بالمائة من الأطفال الأيتام السوريين غير مكفولين”.

المرشدة النفسية والمشرفة في إحدى دور رعاية الأيتام في جنوب تركيا “فاطمة حاج موسى” ترى أن خسارة الأطفال للدعامة الأولى والسند لهم المتمثلة في وفاة والدهم وما يتبعها من شعور الانكسار والخوف، تزداد رسوخا وهم يرون خوف أسرهم من قوانين الدور.

وتورد الموسى عددا من عوارض الاضطرابات النفسية التي تظهر على الأطفال الأيتام في دور الرعاية منها ظاهرة التبول اللاإرادي، والميل إلى التنمر والعناد ومشاكل النطق وتأخره.

كما تضيف الموسى مظاهر أخرى للاضطرابات النفسية تتجلى في صعوبة التعلم لدى الأطفال الأيتام وعدم الرغبة في الذهاب إلى المدرسة خوفا من نظرة الاستعلاء من أقرانهم الأطفال كونهم يسكنون في دور الأيتام، وما يخلفه السكن المشترك لعدة أسر عاشت ذات الظروف من ضغوط اجتماعية ونفسية.

وتحدثت الموسى عن أن إدارات بعض الدور فرض على الأسر من استقبال للوفود الخارجية لا سيما الداعمين، وتحملها مسؤولية نجاح تلك الزيارات أو فشلها، إذ تجبر الإدارات الأسر على تقديم الوجه الأمثل للحياة في الدار وإخفاء العيوب أمام الضيوف، ما يعلم الطفل المواربة والنفاق وتغليب المصالح على قول الحقيقة.

وتشير الموسى إلى ثقافة التواكل على الآخرين التي تخلفها دور الرعاية في نفوس الأطفال، وزرع فكرة أنهم “أيتام يجب على الناس أن تعطيهم”، وتغييب ثقافة المبادرة والعطاء لديهم.

هذا ويبلغ عدد الأيتام في مدينة الريحانية التي تقع جنوب تركيا أكثر من ألف وخمسمائة يتيم، منهم 990 يتيما يقطنون في قرية الأيتام التابعة لمنظمة (IHH ).

دور الرعاية أهون الشر

طفل سوري في إحدى دور الرعاية – اليونيسيف

مديرة دار بيتي لرعاية الأطفال “ميادة عبدي” اعتبرت أن لدور رعاية الأيتام وجهان مختلفان، فهي حل ومشكلة في آن واحد، موضحة:

“حين تعيش الأم وأطفالها الأيتام مع أحد أقربائها (أخوها، أختها..) غالباً ما يتبرم المضيف بعد فترة من وجودهم الدائم والمنهك ماديا له، إضافة للمشاكل التي تنشأ في ظروف العيش المشترك، وهو ما يدفع بالمضيف بالبحث عن حل يكون في معظم الأحيان على حساب الضيف”.

وتتابع المديرة: “هنا لا يمكن أن ننكر ايجابية دور الرعاية في تخفيف الضغط النفسي الذي يقع على الأم والأطفال بعد انهيار معنوياتهم خصوصا حين تكون الأم معولة على مساعدة ودعم مضيفها، وللخروج من أزمتها تلجأ الأم لتسجيل أطفالها بدور الأيتام”.

كما ترى المديرة أن دور الأيتام يمكن أن تكون حلا حين تكون الأم وحيدة في بلد اللجوء ومجبرة على العمل الذي يكون في أغلب الأحيان في القطاع الزراعي، ولعدم قدرتها على تحمل نفقات المعيشة تفضل أن تسجل أطفالها في دور الأيتام التي تضمن لها بقاءهم في الدار خلال ساعات عملها الطويلة.

كذلك هي حل للطفل اليتيم إن كان فاقد الوالدين ويعيش كضيف متنقل بين أقربائه، وهو ما يعني فقده للاستقرار النفسي والحياتي، وهو ما يحظى به في دور الأيتام.

وتستتبع المديرة قولها:

“لكن تكون الدور هي المشكلة حين تشجع الأم على التخلي عن أطفالها، وهو ما يحدث حين تكون الأم قادرة على الإنفاق عليهم لكنها لا تريد ذلك، هذه الحالة تتسبب بالكثير من المشاكل للدار والساكنين بها”.

غالبا ما تشكل إدارة سكن عائلات من ثقافات وعقليات مختلفة في مكان واحد تحديا كبيرا، لا سيما وأن الجميع يعاني من الضغوطات والاضطرابات، دورنا يكمن في إيجاد الحلول لمشاكل السكن قبل أن تحدث، وجعل الحياة في الدار أفضل ما يمكن بحسب المديرة التي تضيف:

“لكن التحدي الأكبر والأخطر هو في توفير التمويل الدائم للمشروع، ما يضمن استمراره في دفع النفقات وإيواء العائلات والإشراف عليها بشكل جيد”.

تدفع الأعداد الكبيرة من الأيتام السوريين بدور الرعاية إلى استبعاد الأولاد الذكور الذين يبلغون 12 عاما، لما لتلك الدور من طبيعة نسائية، ما يعتبر مشكلة كبيرة لأهل أولئك الأولاد وقد تجبرهم في كثير من الأحيان للخروج من الدار للحفاظ على ابنهم.

تستمر أعداد الأيتام بالارتفاع مع الوقت ليصل عدد المسجلين بدور إلى أعداد بحجم الكارثة وقلة منهم من يحصلون على رعاية متكاملة، في حالة وصفتها اليونيسيف بـ “كارثة بكل المعاني”.

تمت كتابة هذه المادة بدعم من منظمة fpu

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*