زيتون – أحمد اليوسف
لاشك أن كلمة تطرف كمدلول لغوي تثير في نفسية القارئ أثرا نفسيا رجعيا، كونها تدل على معاني تذكرنا بأحداث حزينة ومشاهد مررنا بها في حياتنا.
ولكن لما كل هذا؟ وما السر في هذه الكلمة حتى ننفر منها، لابد وأنه أمر يتعلق بالإدراك والفهم العقلي في منطقة اللاوعي للإنسان حتى يشمئز منها.
التطرف في تعريفه هو الغلو والتشدد لفكر أو عرق أو مذهب، والبعد عن الوسطية في التفكير، والخروج أيضا عن العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية المألوفة التي تحكم المجتمع.
ولما كان موضوع التطرف هو موضوع واسع ومتشعب فكريا وزمنيا وجغرافيا فقد آثرنا أخذ نموذج منه يستوفي جميع شروطه ومظاهره وآثاره، وسوريا ستكون هي هذا النموذج الذي بحثنا فيه عن التطرف.
سوريا بلد عربي مسلم شرق أوسطي عصفت به منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي عدة انقلابات عسكرية أطاحت بالديمقراطية الوليدة بعيد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي.
ومع بداية الخمسينيات نمت في هذا البلد الصغير تيارات فكرية أيديولوجية متناقضة منها القومي ومنها الديني مستفيدة من الجو الديمقراطي بعد نهاية الانقلابات.
تأثرت جميع التيارات الفكرية بقضية قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين العربية، بل وأصبحت فلسطين أساس بناء الأحزاب للمزاودة وكسب الجماهير.
وتتلخص هذه التيارات بالمد الناصري القومي، الذي نادى بالوحدة العربية كذلك الأحزاب الشيوعية التي استفادت من صداقة الاتحاد السوفياتي بالأنظمة العربية وسعت لكسب قاعدة شعبية.
حدث هذا في البلاد العربية التقدمية، ولم يكن هناك أي نشاط سياسي في ممالك الخليج النفطية، واستفادت هذه الممالك من الطفرة النفطية حيث أمنت لشعوبها سباتا عميقا عن أي فكر تقدمي.
ما يهمنا هنا هو تيار إسلامي بدأ في الظهور وهو حزب الإخوان المسلمين، وقد رأينا الإسهاب في الحديث عن هذا المكون الحزبي بسبب عدم امكانية الحديث عن التطرف دون التعريج على الإخوان، الذين كانوا الأساس المؤسس للتطرف والتعصب.
ولد هذا الحزب في مصر عام 1930 وأسسه حسن البنا وبدأ الفكر الإخواني ينتشر حيث تأسس حزب الإخوان المسلمين في سوريا عام 1940 على يد المفكر الإسلامي مصطفى السباعي.
حزب الإخوان نادى بتطبيق الدين وجعله أساس القانون في الدولة وأن الشريعة الإسلامية هي القانون الوحيد الناظم، ولم تلاقي هذه الأفكار صدى طيبا عند الأنظمة العربية الديكتاتورية.
و بقيت أفكار الإخوان محدودة الانتشار في صفوف الشعب كون الجماهير كانت منبهرة بفكرة القومية العربية منذ الثورة العربية ضد العثمانيين.
لكن حصول النكبة وقيام دولة إسرائيل عام 1948 قلب الموازين لصالح الإخوان.
وبدأت تنشأ قاعدة جماهيرية لهم لأنهم نادوا بالجهاد لتحرير فلسطين، وهي فكرة استهوت الشباب المتحمس.
هنا أصبحت تشاهد تجاذبات سياسية وربما مواجهات في بعض الأحيان بين الأنظمة والإخوان المسلمين.
بل أصبحت الأنظمة إذا ما أرادت اختبار ولاء شعوبها لها، تقوم باعتقال بعض قيادات الإخوان وترى ردة فعل الشعب عليهم .
أيضا كانت جماعة الإخوان تلجأ أحيانا إلى العنف ضد القبضة الأمنية للنظام، ولتظهر الجماعة على أنها المخلص للشعب من الديكتاتورية والصوت الوحيد الممثل لهمومهم.
كما حصل في مدينة حماة السورية عام 1964 عندما حدثت مواجهات بين الإخوان من جهة والنظام البعثي الديكتاتوري من جهة أخرى ذهب ضحيته عدد من الأبرياء، وكان تبرير الجماعة أن النظام طائفي ويجب قتاله.
لكن المواجهة الأعنف في سوريا بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام السوري بقيادة حافظ الأسد كانت في شتاء 1982 أيضا في مدينة حماة.
دفعت فيه المدينة وقتها ثمنا باهظا حيث دمرت أجزاء واسعة من المدينة وراح ضحية هذه الحرب عشرات الآلاف من المواطنين أكثرهم من النساء والأطفال الذين لأ ذنب لهم.
نتج عن أحداث حماة سجن وملاحقة قيادات وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وتم تطبيق القانون 49 القاضي بعقوبة الإعدام لمنتسبي الجماعة وطويت صفحة وجود الأخوان كحزب سياسي في سوريا بعد تلك الفترة.
وظلت قيادات الإخوان المسلمين خارج سوريا أغلبهم في العراق والأردن ودول الخليج .
التطرف يحتاج إلى بيئة يخلق بها ويزدهر لكن هل كانت البيئة السورية بيئة خصبة لهذا الفكر؟
بعد أحداث مدينة حماة تغول النظام السوري ورئيسه حافظ الأسد وأصبحت سوريا مزرعة له ولحزبه ولطائفته وأسرته، وسيطرت على جميع مرافق الدولة والمجتمع السوري، فكيف عاش السوريون تلك الفترة والتي أسست لوصول التطرف إلى عقل كل سوري :
1_ الظلم والاضطهاد:
في سوريا حزب واحد هو حزب البعث العربي الاشتراكي وقائد واحد هو حافظ الأسد وطائفة واحدة هي الأقلية العلوية التي ينتمي الأسد لها.
ومع أن الأسد الأب كان قد رفع شعار الاشتراكية إلا أنه عاد وتراجع عنها وبدأت رؤوس الأموال تجتمع بيد مجموعة صغيرة من الأشخاص المقربين من الرئيس.
ربما هذه السمة لم تكن واضحة تماما في عهد الرئيس حافظ الأسد لكنها بدت تظهر بقوة في عهد وريثه بشار الأسد حيث التف حوله عدد من ( الاوليغارش).
والذين تمتعوا بكافة امتيازات الدولة حتى أن قوانين الدولة كانت تصدر للحفاظ على مصالحهم الاقتصادية و السياسية.
أضف إلى ذلك الفساد الذي استشرى في جميع مفاصل الدولة من فساد قضائي وانتشار الرشاوي والمحسوبيات وإحلال نظام الولاء للنظام بدل الكفاءة والخبرة.
في هكذا جو خلقت طبقة من المستفيدين من الفساد عاشت على حساب ظلم وقهر السواد الأعظم من الشعب.
كل هذا أضفى حالة من الغضب الشعبي على هؤلاء الفاسدين وعلى النظام برمته، هؤلاء الذين اختطفوا الدولة لمصلحتهم الشخصية.
2_ الفقر:
سوريا كانت ومازالت دولة تعتمد في اقتصادها على الزراعة ومع بداية العقد الأخير من القرن العشرين تغيرت سياسة الدولة فتم إهمال الزراعة، ورفعت الحماية عن الفلاح ليصبح فريسة للبنوك الخاصة والشركات التي تؤمن السماد والمعدات الزراعية باثمان باهظة.
ولأسباب سياسية أحيانا تتعلق بخوف النظام من المكون الكردي في الجزيرة السورية قام النظام بحرمان الفلاحين من مياه الري حتى خرجت مئات الآلاف من الهكتارات من الزراعة وأصبحت بورا وهاجر الفلاحون من محافظات الحسكة والرقة إلى المدن الكبرى للعمل باجور منخفضة وظروف عمل قاسية.
وفي المدينة كان العمل في القطاع الخاص الصناعي والخدمي مثقلا بالفساد وحرمان العمال من أجورهم وساعات العمل الطويلة.
ولما لم يكن هناك دارسة شفافة حول دخل الفرد في تلك الفترة الا الدراسات التي يقوم بها النظام والتي كانت بعيدة كل البعد عن الشفافية والحقيقة، لإخفاء عجز النظام عن الوقوف في وجه مشاكل المجتمع.
لكن وجدنا دراسة قام بها معهد فيريل الألماني قام بها حول الوضع الاقتصادي السوري من العام 2010 حتى العام 2016، بين أن مستوى دخل أسرة مكونة من خمسة أشخاص لم يتجاوز ال 2 دولار للشخص الواحد وهو يلامس خط الفقر حسب معايير البنك الدولي.
والفقر هو من الأسباب المهمة التي تشجع على التطرف والتشدد فهو كما يقول المثل السوري ( الفقر كفر) بمعنى أنه يجبر صاحبه على ارتكاب سلوك قد يصل إلى الإجرام حتى يؤمن عيشه.
3_ الجهل الديني:
نتيجة وجود نظام يدعي العلمانية في سوريا، تم تحجيم دور الدين ورجال الدين خلال عقود طويلة من حكم الأسد الأب والابن، بل وعمد النظام إلى خلق حاشية من رجال الدين همهم الأول ترسيخ عقيدة الولاء للحاكم وتمتع هؤلاء العلماء بدعم مادي و سياسي من النظام ومنهم الشيخ أحمد كفتارو الذي بقي مفتيا لسوريا منذ استلام حافظ الأسد السلطة وحتى وفاة كفتارو، وتم افتتاح معهد كفتارو لتعليم الدين وتخريج العشرات من علماء الدين الذين يمجدون نظام الأسد و يدعون له.
كان هم نظام الأسد بالدين هو ما يراه الحاكم ورجل الدين الموظف من الحاكم، لذلك كانت المؤسسة الدينية تنفذ رغبات حافظ الأسد بدون أي اعتراض.
وتم منع الكثير من الكتب الدينية والتفاسير القرآنية التي تشجع على الخروج على الحاكم الظالم، ومنها كتب ابن تيمية التي تم منعها في سوريا نهائيا، وعقاب من يوجد لديه مثل هذه الكتب.
لذلك انكب الشباب على قراءة ما يتم تهريبه من هذه الكتب وغيرها، على مبدأ كل ممنوع مرغوب.
ولما كان الشخص العادي شبه الأمي يقرأ مثل هذه الكتب والتي تحتاج إلى عالم يفسرها أو يكون متحصنا بعلم غزير حتى لا يتأثر بها، لذلك فالشخص شبه المتعلم سيقرا هذه الكتب ويحفظها بل ويتبنى الآراء التي ترد فيها.
كل هذا نتيجة لغياب الوعي الديني والجهل في أصول الدين والفهم العميق للنصوص الدينية.
وكثيرا ما كانت الجماعات المتطرفة وخاصة إبان الغزو السوفياتي لأفغانستان وبروز ظاهرة العرب الأفغان، فكانت هذه الجماعات تطبع كتبا لمؤلفين مجهولي الاسم والهوية خشية الملاحقة من النظام وتكون الكتب محشوة بسموم الأفكار المتطرفة والمتشددة كفكرة الجهاد وخلع الحاكم الظالم وقتال الشيوعية والغرب الكافر وعدم قبول الآخر وتكفيره.
و كثير من الشباب تشبع بهذه الأفكار نتيجة النقمة على الأوضاع بشكل عام.
4 _ القبضة الأمنية:
اعتمد نظام الأسد حكما بني على أساس أمني استخباراتي بحت، مستفيدا من إعلان حالة الطوارئ منذ العام 1963 والتي كانت أطول حالة طوارئ في العالم.
وكما هو معروف ففي ظل قانون الطوارئ يتم تعليق الدستور وحرمان الناس من الحريات العامة كحرية التعبير والصحافة وحرية الرأي وتشكيل الأحزاب، وأصبح كل من يحاول الاعتراض أو محاولة السعي لبناء حالة سياسية في سوريا يتهم ب معاداة الثورة فكرا وفعلا.
ويتم إلقاء اي مواطن بالسجن دون أي سبب وذلك بأمر من الحاكم العرفي ولفترة طويلة غير محددة.
وكان قانون الطوارئ هذا يجيز للقوى الأمنية التدخل في شؤون كل السوريين حتى في مأكلهم ومشربهم وأسلوب حياتهم، طبعا هذا جر البلاد إلى تغول خطير للأجهزة الأمنية وأصبح هم رجل الأمن إذلال المواطنين وجرهم إلى أقبية الأفرع الأمنية تحت أي ذريعة.
ولتتخيل حجم كابوس الأفرع الأمنية في سوريا عليك أن تتخيل أن عدد عناصر وضباط الأفرع الأمنية وصل عام 2005 إلى 105 الآف فرد يحكمون بلدا صغيرا مثل سوريا بلغ عدد سكانه 21 مليون نسمة، في حين أن جهاز الشرطة السرية التابع للنظام النازي المعروف بال (غيستابو) والذي كان يحكم من خلاله هتلر أوروبا بلغ تعداده حوالي 40 الف فردا.
وهذه الأفرع الأمنية كانت بوحشيتها الصانع الحقيقي للإرهاب والتطرف في سوريا، والتي كانت تستثمر في مجال فكر التطرف والتشدد، وذلك إبان الغزو الأميركي للعراق، حيث قام النظام السوري بإرسال آلاف الشباب السوريين الغاضبين إلى العراق وكان أكثرهم من أبناء الطبقة الفقيرة، ولما بدأ هولاء بالعودة إلى سوريا قامت بزجهم في سجون الأفرع الأمنية ومن ثم تجميعهم في سجن ( صيدنايا)، ليصبح هولاء ورقة ضغط من النظام على دول العالم وليستفيد منهم في الوقت الذي يريده.
التطرف في زمن الثورة السورية:
بعد أن تحدثنا عن الأجواء التي سادت في سوريا، كانت هناك أرضية جاهزة لاستقبال أي دعوة للثورة على هذا النظام.
حتى أتت هذه الشرارة من تونس نهاية العام 2010 والتي عرفت فيما بعد بثورات الربيع العربي.
انطلق الحراك الشعبي في سوريا في 15 آذار 2011 من مدينة درعا المحافظة الجنوبية وهي المدينة المدللة عند النظام، ففيها قيادات كبيرة سياسية وعسكرية وأهلها مرتاحون ماديا، فاغلبهم يعمل في دول الخليج، لذلك كان الحراك بعيدا كل البعد عن الوجه الديني أو أي نوع من التطرف، بل أخذ منحى عشائري وطني حيث اعتقل رئيس فرع الأمن السياسي في درعا العميد عاطف نجيب (وهو ابن خالة بشار الأسد) مجموعة من الأطفال قاموا بكتابة عبارات تسيئ للنظام والرئيس.
وعندما طالب وجهاء المدينة بالأولاد، قام نجيب بإهانتهم وبدأ الحراك بعد هذه الحادثة فورا، وباشر النظام بقمع المظاهرات وقتل المتظاهرين منذ اليوم الأول في درعا، وبالرغم من مكانة مدينة درعا عند النظام وقلة عدد الإخوان المسلمين في درعا، إلا أن النظام قام فورا باتهام الحراك الشعبي بأنه حراك إسلامي سلفي والجميع يعلم أنه ليس كذلك.
ومع اتساع رقعة المظاهرات زاد النظام في قتل المتظاهرين السلميين، وكان الحراك مدنيا وطنيا بعيدا كل البعد عن التطرف والتشدد الديني، وهذا ما أخاف النظام لأنه وجد نفسه أمام ثورة شعبية حقيقية تنادي بالحرية والعدالة وإسقاط النظام الأمني، وتتعاطف معها الكثير من شعوب العالم.
أربعة أشهر من الاحتجاجات والنظام يتخبط من سلمية الثورة، ولم تقع في شرك التطرف الذي أراد لها النظام ذلك، حيث ارتكب شبيحة النظام مجازر في حمص وحماة ومدن الساحل بحق أبناء الطائفة السنية لكن الوضع بقي وطنيا نوعا ما.
هنا قام النظام بالخطوة التالية وهي استخدام ورقة الإرهاب حيث أفرج في شهر حزيران 2011 عن المعتقلين السياسيين من سجن صيدنايا وأغلب هؤلاء كانوا إسلاميين وكان عددهم بالمئات كثيرون منهم كانوا في حرب العراق، ويحملون الفكر السلفي الجهادي المتطرف، وفكرة تكفير كل الناس ماعدا جماعتهم.
وسنرى أن الكثير من هؤلاء سيصبحون أمراء الجماعات الإسلامية المتطرفة وفي تنظيم القاعدة وداعش ومن هولاء:
1 _ محمد زهران علوش: أصبح فيما بعد قائدا لجيش الإسلام في الغوطة الشرقية المحاذية لدمشق، وضم هذا الجيش عشرات الآلاف من المقاتلين الذين يحملون فكرا سلفيا جهاديا متطرفا، واقترف العديد من الانتهاكات بحق أهالي الغوطة.
2_ حسان عبود: أصبح أميرا لحركة أحرار الشام الإسلامية، وهي تنظيم سلفي جهادي ينادي بتطبيق الشريعة ويكفر من يدعو إلى الديمقراطية والحرية، بدأت الحركة نشاطها مع بدايات العام 2012.
حقيقة أن بعد شهر حزيران 2011 ليس كما قبله، فقد اتجهت الأوضاع إلى الصدام المسلح، وهذا ما خطط له النظام ونجح في تحقيقه.
ولا ننسى أيضا دور الدول الإقليمية في تأجيج الصراع، فقد تدفق آلاف المقاتلين الشيعة من إيران وافغانستان والعراق وحزب الله اللبناني باتجاه سوريا بحجة حماية (العتبات المقدسة) في سوريا، قابله دخول المجاهدين السنة إلى سوريا لحرب (المجوس الشيعة)، وبذلك تحولت سوريا إلى أرض معارك بين الدول الإقليمية والدولية لرعاية مصالح هذه الدول تحت ستار الدين، مستخدمين الشحن الطائفي والشعور المذهبي المتطرف.
ولتأمين وصول الأموال للمجاهدين في سوريا، اعتمدت الدول على جماعة الإخوان المسلمين في سوريا كونهم من أبناء البلد، وبدأ الإخوان بدعم جميع الفصائل المسلحة المتطرفة في سوريا.
هنا بدأت تلاحظ مصطلحات جهادية متطرفة بدأت تتسرب إلى عقول الشباب السوري مثل (النصيرية) والتي يقصدون بها الطائفة العلوية وبدأت فتاوى استحلال دم الطائفة بشكل كامل، كذلك رفع شعار تطبيق الشريعة، وهذه المفاهيم جديدة على السوريين، لكنها بدت أكثر رواجا حتى على الإعلام الذي يسيطر عليه الإخوان المسلمين بشكل كامل.
ولم يمض النصف الأول من العام 2012 حتى بدأ السوريون يرون مشاهد قطع الرؤوس بالسكاكين، وهي مقاطع مرعبة استفاد منها النظام بشكل كبير، حيث قدم بشار الأسد نفسه للعالم على أنه حامي الإنسانية وعدو التطرف والإرهاب.
ومع بداية العام 2013 كان قد اكتمل عدد الجماعات المتطرفة على الساحة السورية، فقد ظهر اسم (جبهة النصرة) فرع القاعدة في سوريا، وهو تنظيم سلفي جهادي يقوده الدكتور أيمن الظواهري، ولكن أمير جبهة النصرة شخص مجهول يدعى ابو محمد الجولاني، يحارب التنظيم مبادئ الحرية والعدالة ومفاهيم الديمقراطية والمدنية والتعددية السياسية، وإسقاط النظام ليس هدفهم الأول بل تطبيق الشريعة وإقامة الحدود.
كذلك حاربت النصرة فصائل الجيش الحر وهولاء كانوا جماعة من المنشقين عن جيش النظام، لم يحملوا أي فكر متطرف، ينادون بإسقاط النظام ويحاربون جيش الأسد، لكن بدون طرح أي بديل وليس لهم علم بأسلوب إدارة المناطق التي سيطروا عليها.
أما الجماعات المسلحة الإسلامية مثل (جبهة النصرة _ حركة أحرار الشام الإسلامية _ جيش الإسلام) فقد اتبعوا سياسة إيجاد قاعدة شعبية لهم قبل الحرب ضد النظام، وكانت وسائلهم في ذلك تعتمد على:
1_ المساجد:
استولت هذه الجماعات على المساجد وأصبحت المنابر لهم، تتحدث بلسان الجماعة والأمير لتوجيه عقول الناس وبث الأفكار المتطرفة وحث الناس على تبني رأي الجماعة المتطرفة تمهيدا للدفاع عن هذه الأيديولوجية.
2_ المعاهد الشرعية:
قامت الجماعات المتشددة بافتتاح معاهد شرعية تضم إليها كافة الفئات العمرية والكثير من هذه المعاهد أشبه بالمدارس الداخلية المغلقة، حيث يدخل المنتسب إليها وتبدأ عملية غسل دماغ، ومن ثم حشو دماغه بأفكار التطرف والإرهاب والتشدد والتكفير، ويصبح هم الشاب هو (إقامة الحدود _تطبيق الشريعة _إعلاء كلمة الله _ إقامة الخلافة الراشدة)، وهي مفاهيم فشل تطبيقها في أفغانستان والعراق، حيث حاولت حركة طالبان تطبيقها في أفغانستان لكنها لم توفق بذلك.
أيضا حاولت القاعدة تطبيقها في العراق بعد الغزو الأميركي لكنها فشلت بسبب رفض المجتمع لها.
ما أراده شرعيو الجماعات المتطرفة هو بناء جيل مثقف تثقيفا متطرفا ويطيع الأمير طاعة عمياء.
وأصبحت تتكون نتيجة هذه المعاهد رؤية جديدة لم يعهدها السوريون، فقد أصبح قدوة الأطفال أسامة بن لادن وابو مصعب الزرقاوي، وبدأت قصص بطولاتهم تغزو مخيلة الشباب، وطبعا لا يوجد أي دليل مادي على هذه البطولات التي يتناقلها رواة القاعدة.
وماكان يعتقد الشباب السوري أنه حلالا أصبح حراما والعكس صحيح.
على سبيل المثال كان الشباب السوري الثائر يتوق للحرية والديموقراطية، لكن بنظر الفكر المتطرف هذه مفاهيم غربية وهي مفاهيم حرام تداولها فالديمقراطية شرك بالله.
وماكان حراما أصبح حلالا كقتل أي شخص يخالف الجماعة بالرأي وجب قتله تحت مبدأ (قتل المصلحة) وهو قاعدة لايوجد لها أي سند شرعي أو ديني إلا في عقول المتطرفين المجرمة.
3 _الثورة المعلوماتية ( مواقع التواصل الاجتماعي):
استفادت الجماعات الإرهابية المتطرفة في سوريا من القفزة في عالم الانترنت.
ولم يكن الإعلاميون في الجماعة أقل أهمية من المقاتلين أو حتى الأمير، كيف لا وهو الذي يأتي بالدعم المالي ويجند المقاتلين الأجانب من العالم بأسره.
وكان للإصدارات المرئية للجماعات الإرهابية فعل رهيب في عقول الشباب، حيث يظهر في هذه الفيديوهات المجاهدون وهم يقطعون الرؤوس أو يقتحمون قوات العدو على أنغام أناشيد اسلامية جهادية تلهب عقول الشباب.
نعم كانت مواقع التواصل الاجتماعي الحامل الأهم لانتشار الفكر المتطرف وأصبح منظرو هذا الفكر أعلاما مشهورين يتابعهم الملايين من الشباب على تويتر وفيس بوك وتلغرام، ينتظرون كل فتاوهم الإرهابية المتشددة.
ومن هؤلاء الدعاة المتشددين:
1 _ ابو محمد المقدسي: عصام برقاوي أردني من أصل فلسطيني، منظر سلفي جهادي متطرف متشدد، له فتاوى في تكفير الأنظمة العربية والغربية، سجن في الأردن عدة مرات ومازال يعيش فيها، له عدة معرفات على مواقع التواصل الاجتماعي، وجمهوره كبير في أوساط الشباب، ساهم المقدسي بنشر الغلو في سوريا، ودخل في وساطة بين السلطات الأردنية وتنظيم داعش بشأن الطيار الأردني معاذ الكساسبة لكن التنظيم قتل الكساسبة فيما بعد.
2_ ابو قتادة الفلسطيني: عمر محمود عثمان أردني من أصل فلسطيني يقيم في الأردن، له عدة مؤلفات عن الجهاد ومازال ينشط في بث التطرف حتى الآن.
3_ هاني السباعي: داعية سلفي مصري الجنسية يقيم في لندن، له شعبية واسعة في صفوف جبهة النصرة في سوريا.
وغير هؤلاء كثر ساهموا في نشر ثقافة القتل والموت وتجنيد الشباب من العالم العربي وأوروبا ليأتوا إلى سوريا للقتال فيها.
د _ ثورة التطرف الكبرى (تنظيم داعش):
لأن تنظيم داعش فاق غيره من التنظيمات الإرهابية من حيث كمية التطرف والإجرام ومن حيث الرقعة الجغرافية التي حكمها التنظيم، والأثر الذي سببه في سوريا والعراق وعلى مستوى العالم أجمع، لذلك كان تنظيم داعش يعتبر ثورة في عالم التطرف والتشدد والغلو لذلك افردنا له بابا خاصا.
مع بداية العام 2013 بدأت مراجعات فكرية داخل تنظيم القاعدة بشكل عام، وخاصة بعد مقتل أمير التنظيم أسامة بن لادن في شهر أيار من العام 2011 في عمليه كوماندوس في باكستان.
فبدأت تظهر خلافات عميقة داخل البيت الواحد، وظهر أن أمير تنظيم دولة العراق (ابو بكر البغدادي) يدعمه بعض الأمراء العراقيين والذين هم في الأساس كانوا ضباطا في جيش صدام حسين، وأرادوا نزع صفة الإمارة عن الظواهري، وأن القاعدة لم تعد تنفع لهذه المرحلة، فالقاعدة لم تكن تريد أن تسيطر على الأرض وتعلن نظام حكم، أما البغدادي فقد استغل الانفلات الأمني في سوريا والعراق ليعلن الدولة الإسلامية في العراق والشام.
و ينشق التنظيم في سوريا إلى تنظيمين:
_جبهة النصرة بقيادة الجولاني وبقيت تتبع للظواهري.
_ تنظيم الدولة الإسلامية ويتبع لأبي بكر البغدادي.
ومع بداية العام 2014 حدثت مناوشات بين الطرفين هرب نتيجتها مقاتلي النصرة من شرق سوريا إلى إدلب، وبقيت مساحات واسعة من سوريا تحت سيطرة التنظيم.
والنقلة الأهم في مسيرة التنظيم كانت في حزيران من العام 2014 حيث أعلن المتحدث الرسمي باسم تنظيم الدولة ابو محمد العدناني، بيان إعلان دولة الخلافة ومبايعة البغدادي خليفة للمسلمين وأميرا للمؤمنين، مما يعني وجوب حل جميع الفصائل الجهادية نفسها ومبايعة البغدادي وإلا وجب قتال هذه الفصائل.
ولتلخيص تصرفات داعش في نشر التطرف حددناها بما يلي:
1 _ إعلان الخلافة الإسلامية:
لعب التنظيم لعبة شرعية ليستفيد منها دينياً، فعند إعلان الخلافة يجب على جميع المسلمين في كل أنحاء العالم مبايعة البغدادي أميرا للمؤمنين، وكل من يرفض هذه البيعة يعتبر مرتدا وقد شق عصا الطاعة وفرق كلمة المسلمين ووجب قتله.
2_ أخذ البيعة للبغدادي بالقوة:
نتيجة سيطرة تنظيم الدولة على مساحات كبيرة من سوريا والعراق، ودخلت مدن كبيرة وبلدات تحت حكمهم مثل (الموصل في العراق، والرقة في سوريا).
بدأ التنظيم يأخذ البيعة بالقوة من الناس ومن امتنع يتم قتله بأي تهمة، مثل الردة أو التعامل مع النظام الكافر، ولم يأبه أمراء التنظيم لأعداد القتلى، ففي صيف العام 2014 ارتكب التنظيم مجزرة كبيرة بحق أبناء عشيرة الشعيطات راح ضحيتها أكثر من 800 شخص أغلبهم من المدنيين بتهمة (محاربة تنظيم الدولة الإسلامية) لكن السبب الحقيقي كان السيطرة على آبار النفط في دير الزور.
3_ الدعاية الإعلامية:
كانت المكنة الإعلامية للتنظيم قوية جدا فقد صورت (دولة الخلافة) أنها الفئة المنصورة، وأن جنود الدولة جنود لا يقهرون، وأن الملائكة تقاتل في صف جنود الخلافة، طبعا كل هذا كان هدفه جذب الشباب من كل أنحاء العالم للانخراط في هذا التنظيم الإرهابي المتشدد المتطرف.
وأصبح هؤلاء الشباب عبارة عن أدوات قتل طيعة بيد أمراء التنظيم يقتلون بهم كل من خالفهم الرأي.
لم يقف إرهاب الدولة الإسلامية عند حدود المناطق التي سيطرت عليها في سوريا والعراق، بل تعداها إلى أوروبا، وحصلت الكثير من الهجمات الإرهابية في كل دول أوروبا ومنها: فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا وتركيا.
وأحصت الكثير من مراكز الدراسات عدد ضحايا تنظيم داعش في أوروبا بين العام 2014 إلى 2017 بأكثر من 290 قتيلا و1478 مصابا كلهم من المدنيين الأبرياء، نفذ هذه الهجمات شبان تأثروا بتطرف داعش وإرهابهم.
أراد التنظيم خلق جيل جديد يؤمن بفكر التنظيم المتشدد فهو لم يكتف فقط بتسميم عقول الشباب بل تعداه أيضا إلى الأطفال فتم تأسيس ما عرف بأشبال الخلافة.
4_ أشبال الخلافة:
يقوم أمراء التنظيم بجمع الأطفال من سن العاشرة وما فوق وزجهم في معسكرات مغلقة للتدريب العسكري والشرعي وفي هذه المعسكرات تتم عملية غسل دماغ هؤلاء الأطفال ليصبح مجرما بكل معنى الكلمة.
وبالرغم من عمره الصغير فهو يتقن القتل والذبح بالسكين والتفجير والتدمير ويعرف القنص والاقتحام ويلبس حزاما ناسفا يفجر نفسه وقت يريد الأمير.
وفي عملية غسل الدماغ يغرسون عقيدة الموت وقتل الكفار والمرتدين، ويزرعون الحقد لكل من يخالف عقيدة داعش.
وتقول بعض الإحصائات غير الرسمية أن عدد هؤلاء القتلة الصغار (أشبال الخلافة) وصل في بعض الأحيان مابين 3000 و 4000 مقاتل، وهم ماقال عنهم البغدادي جيل المستقبل الذي سينشر قيم الخلافة وشجاعة الجهاد.
لكن في الحقيقة لم ينشر هؤلاء إلا الموت والتطرف والتشدد، وقد اعتمد عليهم التنظيم في معارك كبرى كمعركة مدينة الرقة ضد قوات سوريا الديمقراطية.
تنظيم داعش ابتكر أساليب جديدة في نشر التطرف أجبرت أحيانا واستمالت أحيانا قلوب الشباب المقاتلين ليصبحوا بيد أمراء التنظيم، مثل مقاتلي الساموراي اليابانيين الذين يطيعون معلمهم حتى لو أمرهم بقتل أنفسهم.
جرت تصرفات التنظيم الويلات على المجتمع السوري، فقد أصبحت مشاهد قطع الرؤوس السريالي القبيح، مشاهد معتادة تراها كل يوم على دوار النعيم في مدينة الرقة أو في ساحات الموصل، كما أن التنظيم منع أجهزة استقبال البث الفضائي في أماكن سيطرته حتى لا تتأثر حاضنته بأي رأي آخر إلا رأي فكر التنظيم المجرم.
هـ_ آثار التطرف على الثورة السورية والمجتمع السوري:
1_ تأثير التطرف على الثورة السورية:
بالمطلق يمكننا القول إنه لا يمكن أن يكون هناك أي أثر إيجابي للتطرف على مناحي الحياة المختلفة، لذلك فقد كان له أثر سلبي عميق على الثورة السورية، فالثورة كانت تمثل حراكا شعبياً وطنياً يطالب بالحرية والديمقراطية، لذلك وجد الكثير من المتعاطفين معه في شتى أنحاء العالم وخرجت مظاهرات في بلدان عربية و أوروبية تدعو إلى رفع الظلم عن الشعب السوري وإلى رحيل الرئيس بشار الأسد الذي أوغل في قتل شعبه.
لكن ومع بدء تدفق المقاتلين الأجانب إلى سوريا عبر الحدود وظهور التنظيمات المتطرفة مثل (أحرار الشام _ جيش الإسلام _ جبهة النصرة _ تنظيم داعش تنظيم جند الأقصى)، وانتشرت معها مقاطع قطع الرؤوس والذبح بالسكاكين وتطبيق الحدود، مثل الجلد والقتل وفرض الحجاب على النساء واضطهاد المسيحيين، وخطف بعض رجال الدين المسيحي ومنهم الأب اليسوعي باولو داوليلو في مدينة الرقة من قبل تنظيم داعش منذ العام 2013 وهو مختفي حتى هذه اللحظة.
كل هذه الانتهاكات والجرائم التي مارستها التنظيمات الجهادية المتطرفة لم تخدم الا النظام السوري، فقد قام بتقديم نفسه على أنه حاميا للأقليات ومدافعا عن قيم العيش المشترك وراعي الأديان والتعددية، وهو في الأصل الصانع الأول للإرهاب والفكر المتطرف.
لقد خدمت الجماعات المتطرفة النظام السوري خدمة كبيرة حيث أعادت إنتاجه من جديد.
2_ ظهور حالات الثأر في المجتمع السوري ذي الطابع العشائري:
دأبت التنظيمات الإرهابية على إبقاء المجتمع السوري ضعيفا متناحرا، لذلك اعتمدت سياسة فرق تسد، وضربت مكونات الشعب السوري ببعضه البعض.
وظهر ذلك بشكل واضح في المحافظات الشرقية التي يحكمها الطابع القبلي البدوي ولديها قيم مثل (الأخذ بالثأر).
ففي مجزرة الشعيطات قام تنظيم داعش بتكليف أبناء عشيرة أخرى بتنفيذ المجزرة حتى تتناحر القبيلتين لفترة طويلة جدا من الزمن.
نفس هذا المبدأ تقوم به جبهة النصرة في شمال سوريا، فهي تحرض أبناء القرية الواحدة على بعضهم البعض، فتقع عمليات قتل تليها عمليات انتقام من الطرف الآخر، وكل عائلة يدعمها تنظيم متطرف كما حصل بين جبهة النصرة وأحرار الشام حيث استخدم التنظيمان المدنيين وقودا للحرب بينهما.
3_ تدمير العقد الاجتماعي للمجتمع السوري :
منذ الأزل تحكم المجتمعات بقانون غير مكتوب هو العرف أو العادات والتقاليد والقيم والنظم الأخلاقية والمحبة والتعاون والقيام بالواجبات بين أفراد هذا المجتمع.
لكن مع انتشار ظاهرة التطرف وتحكم الجماعات الإرهابية في المجتمع السوري، بدأت هذه القيم تنهار لتحل محلها قيم الولاء والبيعة للأمير وقيم إلغاء الآخر وتكفيره والخوف منه.
هذه الوضع أوجد حالة من الخوف داخل المجتمع فلم يعد هناك جهة حامية وضامنة لحقوق الناس، هناك فقط الجماعة المتشددة والتي تفسر الشرع حسب حاجتها، لذلك فقد الناس ثقتهم بهؤلاء كون الشرع يختلف باختلاف الجماعة.
وأصبحت علاقة المحكوم الذي هو المواطن السوري بالحاكم الذي هو أمير في جماعة متطرفة وعلى الأغلب هو أجنبي لا يتكلم العربية علاقة مقطوعة.
لذلك انهارت القيم المجتمعية التى تربى عليها السوريون، وتشرذم المجتمع وانتشرت الفوضى إضافة إلى فوضى السلاح بيد كل من يستطيع حمله.
و _ سبل مكافحة التطرف:
بعد أن تحدثنا عن التطرف في سوريا تاريخه وأسبابه وبيئته وانتشاره مع انتشار التنظيمات الإرهابية، لابد أيضا من أن نحاول أن نطرح حلولا مناسبة للقضاء على هذه الظاهرة وهذا الفكر الظلامي التكفيري ومحاولة إعادة التوازن للمجتمع السوري وعلاجه من التطرف والإرهاب، والذي كان سبباً في استمرار دوامة العنف والحرب في سوريا.
ولابد أن نشير إلى أن الحرب على الإرهاب والجهود الجبارة لقوات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية في كل من سوريا و العراق والذي تشكل منذ العام 2015، قد أضعف التنظيم بشكل كبير وأصبحت رقعة تواجده محدودة جدا، ولم يعد يسيطر إلا على مساحة صغيرة على أطراف نهر الفرات في سوريا.
ولكن النصر العسكري لا يحقق هزيمة التطرف، لأن التطرف فكرة والفكرة لا تموت بالبندقية فقط، بل الفكرة تحتاج إلى فكرة تقابلها وتبطل مفعولها.
لذلك فالعلاج يجب أن يكون شاملا لجميع طبقات المجتمع السوري بكافة شرائحه ومكوناته في سبيل إيجاد لغة تقف بوجه لغة التطرف المتمثلة بالكره والحقد.
ومن هذه الوسائل العلاجية:
1 _ المدارس:
كما قامت التنظيمات الإرهابية باختطاف عقول الشباب والأطفال وغسل ادمغتهم وغرس أفكار القتل والحقد وإلغاء الآخر، علينا تعليم هذا الجيل قيم التسامح والمحبة.
لذلك يقع على عاتق المجتمع الدولي تأمين مدارس لأبناء السوريين وإلزام الأطفال بها، لأننا إن لم نفعل ذلك تركنا الأطفال فريسة للمتطرفين لتحويلهم إلى إرهابيين.
وأن تكون المناهج الدراسية تؤدي رسالة سامية تنبذ التطرف والإرهاب وتحل مكانه قيم المحبة والسلام وتنسي الجيل الجديد مآسي الحرب والموت.
2_ المساجد:
للمساجد دور كبير في مكافحة الفكر المتطرف والتشدد، ويتلخص هذا الدور بإلزام الخطباء والأئمة بالابتعاد عن الخطب والدروس التي تثير النعرات الطائفية وتحرض على قتل أي انسان تحت أي مسمى وتخلق خطابا دينيا وسطيا معتدلا يقبل الآخر ولا يلغيه، ويبتعد عن أفكار التكفير والاتهام بالردة والشيطنة، ولا يثير في نفس المتلقي الغرائز العدوانية تحت مسمى الآخر المختلف المكروه.
كما يجب على رجال الدين تسمية الجماعات الإرهابية وفضح ممارساتهم وجرائمهم، وتذكير الناس دوما بوحشيتهم وهمجيتهم، وضرب الأمثلة الشرعية المناسبة التي تبطل فكرهم وتكذب افترائهم على الدين والشريعة، وكيف أن هؤلاء المتطرفين ركبوا الدين حتى يصلوا إلى مصالحهم الشخصية الضيقة ولو أدى ذلك إلى تدمير المجتمع.
هكذا حتى تترسخ في ذهن الناس بشاعة الفكر الإرهابي وبشاعة ممارساتهم، وأن هؤلاء مجرد مجرمين يتسترون بالدين الذي اخترعوه هم، ويصبح كل إنسان رافض لهذا الفكر.
3_ منظمات المجتمع المدني:
يجب أن تبين هذه المنظمات الخطر الحقيقي للتطرف على المجتمع والذي يهدم العلاقات بين المواطنين على مختلف المستويات.
وتفعيل دور الناشطين المدنيين في توعية الشباب وكافة الفئات العمرية حول سلبيات التطرف والإرهاب، ونبذ هذا الفكر وتحمل كل فرد في المجتمع لمسؤوليته في محاربة هذا الفكر الظلامي، و زرع قيم إنسانية مثل الحرية والعدالة والديمقراطية وقوة القانون والتعددية السياسية والمدنية.
ويتأتى ذلك من خلال عقد ندوات ثقافية وأمسيات شعرية وحتى إقامة معسكرات ترفيهية لكافة مراحل العمر المختلفة، حتى نصل إلى حالة مجتمعية حضارية تليق بالشعب السوري العريق البعيد عن التطرف والإرهاب، والعمل على بث مبدأ التسامح والتصالح والعفو، وأن سوريا بلد يتسع للجميع إلا الإرهاب والتطرف.
4_ مراكز مكافحة التطرف:
هذه الفكرة جديدة على المجتمع السوري وذلك بسبب سيطرة المتطرفين أنفسهم على الأراضي الخارجة عن سيطرة النظام وخاصة في الشمال السوري، باستثناء تجربة يتيمة في مدينة اعزاز السورية المتاخمة للحدود مع تركيا، والمسمى (مركز مكافحة التطرف).
الفكرة المتمثلة بإنشاء هكذا مركز تبدو جيدة، لكن الخطأ يكمن في تطبيق هذه الفكرة، ففي مركز اعزاز لا توجد آلية عمل حقيقية تجابه التطرف، فالقائمين على المركز أغلبهم هواة غير مختصين.
وانشئ المركز لإيواء أسرى تنظيم داعش الإرهابي الذين وقعوا بيد فصائل درع الفرات المدعومة من تركيا، والهدف منه إعادة تأهيل هؤلاء المتطرفين وتخليصهم من الفكر المتطرف.
لكن وبعد أقل من عام على افتتاح المركز، لم نسمع أي خبر عن نشاطات المركز أو عن إنجازاته في تأهيل الدواعش وهل نجح المركز في تحقيق تقدم مع هؤلاء.
للأسف هي تجربة إعلامية محضة مدعومة من الإخوان المسلمين، بهدف إظهار الإخوان على أنهم يقفون ضد التطرف والإرهاب، مع العلم أن الإخوان المسلمين هم الداعم الأول لفصائل مسلحة متطرفة في سوريا مثل (جبهة النصرة و أحرار الشام)، ولايمكن لمن ينمي التطرف أن يكافحه.
لو أردنا إقامة مثل هذه المراكز فيجب أن تكون مراكز أكاديمية بحثية، يدرس فيها دكاترة في علم النفس ومختصون في الطبيعة البشرية.
كما يجب على إدارة هذه المراكز ترك هامش من الحرية لهؤلاء المتطرفون حتى يعبروا عن أفكارهم من أجل نقاشها وبناء نظريات عليها تستخدم فيما بعد في أبحاث توجه المجتمع ضد التطرف.
بوجود مثل هذه المراكز يمكننا مكافحة الغلو والتشدد كفكر وكظاهرة مرضية والتأسيس لعلاج التطرف كمرض نفسي يمكن معالجته كأي مريض يعاني مشاكل نفسية.
بعد هذا الشرح المسهب عن التطرف وتاريخه في سوريا وكيف تم استخدام هذا السلاح لخدمة النظام السوري أولا، وربما مصالح دول إقليمية، لكن وللأسف كان الإنسان هو الضحية لهذا الفكر الأسود، لأنه يدمر الإنسان و المجتمع أيضا، ولا يقل خطر التشدد عن خطر المخدرات، فكلاهما ينهشان العقل البشري ويصبح الإنسان بلا إرادة واقع تحت سيطرة هذا الإدمان على الطاعة العمياء لتاجر المخدرات ولأمير الجماعة في حالة الإرهاب.
وكلنا نذكر الشاب المنتسب لتنظيم داعش والذي قتل أمه في مدينة الرقة عام 2016 لأنها انتقدت تنظيم داعش.
عندما يقتل الابن أمه فعلينا أن نعلم بأن الابن لايملك أي ذرة عقل وقد حوله فكر التطرف إلى مجرم، قتل أقرب الناس إليه وهي أمه.
ولأن سوريا شهدت وبعد العام 2011 أقوى موجة تطرف وتشدد يشهدها بلد على مستوى العالم، فلا بد من تكاتف الجهود الدولية لمساعدة سوريا على التخلص من هذا الفكر، خاصة وأنه وبالرغم من تراجع التطرف بانحسار تنظيم داعش لكن الخلايا النائمة مازالت تملأ المجتمع السوري.
بالإضافة إلى وجود تنظيم جبهة النصرة فرع القاعدة في سوريا وأحرار الشام كفصيل متطرف.
كما أن عدم الإسراع في مساعدة سوريا ضد قوى التشدد والإرهاب، سيؤدي إلى انتقال هذه الخلايا إلى دول مجاورة أو بعيدة ناقلة معها فكر الموت والقتل، كما حدث في العديد من الدول الأوروبية في الأعوام الأخيرة.
وعلينا أن نعلم أن صانع الفكر المتطرف الأول في سوريا هو النظام السوري ويجب أن يفهم هذا النظام أن أيام اللعب بورقة الإرهاب قد ذهبت، وإنهاء هذا النظام هو الطريق إلى إضعاف الإرهاب، وبناء دولة ديمقراطية حقيقية حضارية مدنية هو الحل للخلاص من حالة التشدد الإسلامي الجهادي الذي أتى بالويلات على سوريا ومنطقة الشرق الأوسط والعالم الغربي.