الدفتر ذو اللون البني

 

عروة العلي

في إحدى بلدات ريف إدلب الغربي رزق صاحب متجر للإكترونيات طفلته الأولى التي كانت السبب وراء مثابرته في عمله بشغف شديد، راغباً في تأمين عيش كريم لها، لا سيما أنه كان يخشى أن يصبح أباً، ويهاب رعاية عصفور، فكيف وقد رزق بكائن يراه كأجمل ما خلق الله.
لم يطل الوقت حتى كافأته مثابرته بالعمل ومنحته بحبوحة عيش، مكنته من أن يعيش حياةً رغيدةً قياساً بحياته السابقة.
في ظهيرة يوم حار، دخل إلى محله موظفان أنيقان، يحملان دفترين مجلدين باللون البني، لم يستطع أن يخفي كراهيته للموظفين ولا للدفاتر ذوات اللون البني، وبعد سؤال وجواب، قررا أن يمنحاه مخالفة مجزية، لا سيما بعد أن شكك بنزاهتهما، في حمل موظف في دائرة التموين لهاتف «دبدوب» ذكي من أحدث طراز؟.
كانت المشكلة في الدفاتر البنية التي كان يراها مليئة بالمؤامرات، ويعرف أن أغلبها كان يوزع على المخلصين للنظام، إذ كانت تقدم كحبة سكر في أروقة المؤسسات الحكومية، وكان هو يراهن على أن تلك الدفاتر هي سبب ديمومة النظام، وحتماً هي السبب في قهر الناس أمثاله، كما كان يراهن على أن صورة القائد الخالد-على حد تعبيرهم- قابعة في الصفحة الأولى من تلك المفكرات تراقب كل حرف سيخط فيها.
وظلت تلك الدفاتر بطاقة تعريف لحاملها لسنوات طويلة، يحملها كلاً من عناصر الأمن وأصحاب الدراسات، وموظفي الدولة والجباة، ومدراء المدارس ورؤساء البلديات، ولا يمكن لرئيس شعبة حزب أو فرع حزب أن يخرج بدونها، كما يمكن أن تكون في حقائب أبناء المسؤولين والمقربين من دائرة السلطة.
وبالعودة إلى صاحب المتجر الذي لم يكترث لمخالفته رغم كبر المبلغ، نظراً لقدرته على تجاوز الأمر كما بدا له في البداية، فهو يعرف أن هذه المخالفات تحل بذات مبلغ المخالفة، لكنه ولقصر نظره وجهله المكين ، قرر أن يستعين بأحد المحامين أصحاب الباع الطويل في القضاء العسكري، المختص في تلك المخالفات، وحاول أن يكون من أصحاب المبادئ في البلد، فهو لا يقدم رشاوى لأحد.
المحامي ذو الباع الطويل انتدب متدربة لديه لتترافع عن صاحب المخالفة، وقد قامت بكل ما يلزم لتكون على قدر المسؤولية، لكن كاتب العدل لدى القاضي العسكري كان قد استحسن شكلها فقرر أن يماطل في تقديم الدعوة للقاضي كي يعرفها بقدرته وصلاحياته، فقد يكون عذاب الجميلة أقرب الطرق إلى قلبها.
بعد الجلسة العاشرة قرر المحامي العتيد أن يحضر بشخصه لحل القضية التي قال عنها أنها شربة ماء بالنسبة له، ولكي يرى الموكل سطوته في ذلك الباستيل قرر الحضور، فوجئ بحجم تقزمه وتهريجه لذلك الكاتب، وانتابه شعور أنه خسر قضيته التي كابر أمام الموظفين وأمام الكاتب وهو يدافع عنها، فقد جعله المحامي يشعر بسخافة أساس الملك، وضحك من سذاجته وبساطته حين شعر أن ما امتلكه قد يحميه من نكاية موظف فاسد، فكيف إن كان كاتب عدل لئيم.
بعد شهور طويلة طلب المحامي من موكله اجتماعاً مستعجلاً وأخبره بأن يجلب معه مبلغاً محترماً لدفع التكاليف.

لم تطل سعادته في انتهاء قضيته حين علم بحجم المبلغ المطلوب، فقد تضاعف مبلغ المخالفة نظراً لما قدمه المحامي لكاتب العدل من رشوة، كان يرى دفترا ذا لون بني على طاولة المحامي، ورأى للمرة الأولى أن محاميه كان أنيقاً على غير عادته، كما اكتشف فيما بعد أن محاميته الشابة قد تزوجت من المحامي.
سنة ونيف وجاءت كاشفة الستر، لم يتأخر صاحب المحل وقرر المشاركة في المظاهرات، حالماً في عالم يخلو من الموظفين ومن الدفاتر ذات اللون البني.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*