يشعر المرء غالبا بالغبطة حين رؤيته لانتصار الحق، وتتلوى نفسه بالألم حين يسود الظلم، وتصمت الأفواه في سبيل رفعه، ويغرق الإنسان بالكآبة كلما يأس من تحقيق العدل، الكآبة واليأس هما جذر الانتفاض على الخوف، في مرحلة تفيض بها الحالة عن الاحتمال.
ومنذ القدم، عرف المفكرون أن الجيوش لا يمكن أن تدير المدن، ولم يترك على مدى التاريخ، شعبا تحت رحمة جيش عسكري، إلا وعانى الأمرين من سوء الإدارة وبطش العسكر، ذلك لأن إدارة المجتمعات تحتاج إلى اختصاص وعلم، لا تتوفر لدى من امتهن القتال، وكرس تفكيره في كسب المعارك بالقوة والعنف.
طفت حادثتان مؤخرا على الإعلام تعيدان ضرورة إقصاء العسكر عن الحياة المدنية، وإن كان لا بد من استخدام القوة في بسط سلطة القانون على المجتمعات، فإن من المهم أن يكون ذلك الاستخدام مقوننا ومحدودا ومتناسبا مع الحاجة لاستخدامه.
تكشف الحالة الأولى عن نزوع الإنسان للحق والعدالة والإنسانية، وهو ما ظهر في مدينة عفرين بالأمس، إذ رفض مهجر بسيط من الغوطة استغلاله على يدي مقاتل من فصيل فرقة الحمزات، وذلك بعد أن ظن المقاتل أن لديه الحق في اختلاس بعض المواد من محل المهجر، الصورة نمطية وقديمة، مسلح يفكر بحقه بالإتاوة، ومواطن يأبى الظلم، يمثل الجانب الأول الفتوة والقبضاي، فيما يمثل الجانب الثاني المغلوب على أمره والمظلوم.
وفي تطورات المشكلة، يحاول المقاتل، الذي ترك بلا رادع يصول بين النازحين والمهجرين، أن يثبت مزاياه التي تخوله بحسب تفكيره سلب الضعفاء، فيرمي بقنبلة يدوية على المحل الذي تمرد على سلطته، ولنا نحن أن نتخيل ما يمكن أن يكون قد وقع من تنمر واعتداء حتى بلغ بالعنصر المسلح أن يرمي قنبلة على محل تجاري.
ولعل من أبرز إيجابيات الثورات والاحتجاجات إن لم يكن جانبها الوحيد، هو ذلك النزوع الإنساني لمؤازرة الحق، الانتفاض على الظالم مهما بلغ من سطوته، دون الأخذ بالحسبان العواقب المترتبة على هذا التمرد المحق، وهو ما حدث بشكل فعلي في حادثة عفرين، إذ تداعى مسلحو الغوطة من الفصائل التي وصلت إلى الشمال السوري، للوقوف إلى جانب ابن منطقتهم صاحب المحل، ولتجبر بعد سيطرتها على مقار فرقة الحمزات في المدينة على إصدار بيان تدعي فيه جنوحها للسلم وتعهدها بمحاسبة المتورطين.
إلى ذلك خرجت تظاهرات غاضبة على خلفية العثور على نساء كرديات محتجزات في مقار تابعة لفرقة الحمزات، شجب خلالها المتظاهرون بإساءة الحمزات للتقاليد والأخلاق، وعدم جواز أستبقاء نساء في مقر فصيل أيا كان.
في الحالة الثانية، لاقت حادثة مقتل المواطن الأمريكي الأسمر، على يد رجل شرطة، تضامن العالم مع الضحية، ليؤكد ذك التضامن وحدة المشاعر الإنسانية وتوحدها على مستوى البشرية، ضد العنف الغير مبرر، أو أي شكل من أشكال الظلم العنصري، ولأن جهاز الشرطة هو الوجه المدني للقوة العسكرية، فإن أخطاءه تعتبر انعكاسا مخففا لما يمكن أن يحدث لو تسلطت الجيوش بذاتها على المجتمعات.
لم تخرج مجتمعاتنا حتى اليوم من مأساتها في حكم العسكر، فمعظم السلطات اليوم في الدول العربية هي من ضباط وصلوا إلى السلطة بانقلابات عسكرية، مارسوا القمع على شعوبهم بالقبضة الأمنية والعسكرية، وليس بعيدا ما حصل في سوريا، ما بين أحداث حماه والثورة السورية.
هذه السلطة العسكرية هي السبب الأول لإبقاء الشعوب والدول في مراحل متأخرة عن باقي المجتمعات الحرة، ذلك لأن تضاربا حادا في المصالح ينشأ ما بين دكتاتورية العسكر ومتطلبات بناء الدول، لتضطر الشعوب في مراحل متقدمة للثورة ضد الحاكم، مستعينين بالعنف ذاته الذي يجابه به الحاكم شعبه، ولتبقى دائرة العنف في حركة دائمة مدمرة أي استقرار يمكن أن يبني وطنا.