رمضان النازحين بين الأمس واليوم

زيتون – رامي إبراهيم
كان يجد لـ “السكبة” المقدمة من الجيران قبل الإفطار وقع خاص يجعل منها في ذاكرته طقسا من الطقوس المحببة في رمضان، وهو ما يفتقده اليوم، فالعلاقات الاجتماعية في النزوح تحتاج إلى وقت طويل.

هذه إحدى مشاهد رمضان التي بات النازحون في الشمال السوري يفتقدونها، بعد أن اقتلعوا من بيوتهم وشردوا متروكين للبطالة والخوف والجوع.

يستذكر الحلاق ابن مدينة سراقب والنازح في مدينة جرابلس حالياً “أحمد لطوف” يوميات رمضان في بلدته المحتلة، متحدثا عن صالون حلاقته الذي كان يستضيف به أصدقائه وجيرانه، يتبادلون الأحاديث والأخبار.

وبغصة المهجر يروي لزيتون عن حجم الألفة التي تجمع الناس في رمضان، ومحاولة الجميع تقديم المساعدة ومد يد العون لبعضهم، في شهر يعتبرونه من أهم الأشهر في السنة.

وتعتبر ساعة ما قبل الإفطار ساعة التنزه في أرجاء المدينة ولا سيما السوق، لإضاعة الوقت الصعب من النهار، ويقارن لطوف ما بين صالونه في بلده وصالونه الحالي الذي اضطر لمشاركة شخص أخر فيه، وكيف غدا اليوم في سباق لتأمين إيجار المحل والمنزل بعد أن كان في بيته ومحله.

أربعة أشهر منذ أن نزح لطوف وما يزال يحلم بالعودة ككل أهل بلده، فلا خلاص مما يعيشون به من ضنك وضيق إلا في العودة إلى بلداتهم، فتكاليف الحياة وخصوصا في شهر رمضان باتت أكبر من أن يحتملها النازحون، ورغم ما يقضيه لطوف من وقت طويل في صالونه لكسب رزقه إلا أن العمل لا يقدم له ما يحتاج إليه.

هو أول رمضان لأكثر من مليون شخص من أهالي الريف الشرقي والجنوبي الإدلبي يقضونه في النزوح، أول رمضان تغيرت فيه طقوس صيامهم وإفطارهم، وانخفض فيه استهلاكهم وحسن موائدهم، مضطرين للتقتير على أطفالهم وتقنين مصروفاتهم إلى الحد الأدنى، وهو ما انعكس على الأطفال بشكل عام.

يشكوا النازحون من الغلاء في رمضان، فارتفاع الأسعار الذي سبق رمضان زاد أكثر من المقبول، فأي كيلو غرام من أي نوع من الخضار بات بعتبة الدولار.

وتعتبر دعوة الأقارب والأهل من أهم طقوس رمضان في سوريا، كان الريف الإدلبي من أكثر المناطق التي تمسكت بهذا الطقس، يقول لطوف:

“أهم الطقوس الرمضانية التي كنا نعيش بها هي لمة العيلة على مائدة الافطار الواحدة والتي نفتقدها الأن، فكل فرد في العائلة بات في مدينة، في سعيهم خلف العمل”.

معتكف في بيته، يقضي جل وقته فيه زاهد في الخروج، لا خوفا من الوباء بل بسبب إحباطه من إيجاد عمل، “محمد عبيد” مهجر من الريف الشرقي لإدلب وأب لطفلين يعتمد في حياته على بعض المساعدات المتواضعة المقدمة له، بعد أن كان يأكل هو وأسرته من عمله في مجال البناء، وفي رمضان كان يعمل بعد الإفطار حتى السحور، وهو ما يفضله أصحاب المهن الشاقة كالبناء، خوفا من إجهاد الصيام نهارا.

ويستذكر محمد كيف كان يقضي نهاره الرمضاني برفقة أقاربه، متنقلين بين المزارع أو الأسواق، ورغم القصف الذي كانت تشهده مدينته سراقب في تلك الأيام إلا أنه يتمنى أن تعود وأن يعود لمنزله.

محمد كان يجد للسكبة المقدمة من الجيران قبل الإفطار وقع خاص يجعل منها في ذاكرته طقسا من الطقوس المحببة في رمضان، وهو ما يفتقده اليوم، فالعلاقات الاجتماعية في النزوح تحتاج إلى وقت طويل.

يتجنب محمد الخروج الى سوق المدينة كي يتحاشى أصناف الطعام التي يعجز عن شرائها، والتي اعتاد عليها فيما سبق، يقول:

“الأجواء في رمضان هنا تختلف عما اعتدنا عليها، لا أجد التنوع المعتاد في رمضان، كما أن معظم الناس ينامون باكرا، عكس ما كنا نقوم به في مدينتنا”.

“أحمد عدوان” المهجر من مدينة كفرنبل يعمل كسائق لدى المجلس المحلي في الشمال السوري، يضيق صدره بالحديث عن واقع رمضان الحالي، متألما على لقاءاته مع أخوته في رمضانات ماضية على مائدة الإفطار.

وبالرغم من أنه يعتبر محظوظا بحصوله على عمل إلا أن ما يتقاضاه لايكاد يؤمن له إيجار المنزل مع القليل من حاجياته الأساسية، وهو ما يضطره للإفطار على ذات الوجبة لأكثر من يوم عكس ما كان عليه سابقا، ويضحك أحمد وهو يقول أن الفاكهة صارت من المحرمات في النزوح لدى أغلب النازحين لضيق الحال.

ويؤكد أحمد أن وجبة الإفطار لأربعة أشخاص لا تقل تكلفتها عن 10 آلاف ليرة سورية، في غياب لأي مساعدات غذائية من أي جهة من شأنها أن تخفف مصاريف الحياة على النازحين.

“وأذكر أيام الحمى ثم أنحني على كبدي خشية أن تصدعا” بهذا يؤكد أحمد بؤس واقعه في مدن النزوح الغارقة في ظلمة شوارعها بعد الإفطار، كما ساهم الخوف من الوباء في زيادة سوداوية المشهد، فإلغاء صلاة التراويح ونوم الأهالي في ساعة مبكرة لم يدع أي أمل في لقاءات محببة.

البقال الحمصي “محمد الخالد” يعبر عن صدمته بارتفاع الأسعار في سوق الهال في المدينة واصفا إياها بالجنونية والمقترنة بسعر الدولار دائما، وهو ما يراه مفارقة كبيرة بين وضع الأهالي والنازحين والأسعار التي لا تتناسب مع مداخيلهم الضعيفة إن وجدت، فقد بات الكثير من الأهالي معدمين من أي دخل.

ويدلل الخالد على جنون الأسعار بما وصل إليه سعر كيلو الأرز البالغ 1500 ليرة سورية، والسكر 750 ليرة سورية للكيلو الواحد، متوسط سعر كيلو الشاي 6000 ليرة سورية، الزيت بـ 2000 ليرة، وهي مواد أساسية لا غنى لأي عائلة عنها.

لا يستبعد الخالد تلاعب التجار بالأسعار، معيبا عليهم استغلال المهجرين في هذا الوقت الصعب الذي يمرون به، مشيرا إلى تفاوت الأسعار بين المدن وحتى بين بقاليات المدينة الواحدة.

ويؤكد الأهالي أن ثقافة التبضع وشرائهم للحاجيات قد تغيرت في هذ العام عن الأعوام الماضية، فقد صارت مشترياتهم يومية وبكميات قليلة، واستبعاد ثقافة “المؤنة” في البيت التي دأبوا عليها في حياتهم السابقة.

ويضيف الخالد أن الكثير من المهجرين باتوا يعتمدون على الاستدانة من البقالية ريثما يتمكنوا من تسديد فواتيرهم، معتمدين في غالب الأحيان على المساعدات التي تصلهم من أقاربهم في الخارج.

فيما يكتظ النازحون في بيوت مؤجرة وضيقة، وجيوب فارغة في أسواق لم تعد تعرف الرحمة، يرتع الشبيحة وجنود الأسد في المدن التي سيطروا عليها، والتي باتت خاوية من أهلها، في وطن بات كلوحة غير متناسقة، ضحيته الأولى النازحون الصائمون.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*