
عدنان صايغ
كانت الشوارع في تلك الفترة معتمة حتى ليشك المرء بعمائه، كما كان الصمت مختلفا عما عرفه الناس، إذ كان مشبعا بالخوف والترقب، ومع كسر صنم السلطة في بداية الثورة بات هناك الكثير من الجهات المتربصة والطامحة لنيل نصيبها من الفوضى والمجد.
كانت الأجواء مناسبة لكل ما هو ممنوع، والوقت يشيع التوجس من ما هو متوقع وغير متوقع، حينها صارت الأبواب التي ظلت دهرا دون أن توصد تقفل بهوس، ودأب الآباء على توصية أبنائهم بأن لا يتأخروا خارج البيت، ثمة مسافرون عادوا وآخرون سافروا، تغيرات واضحة في أمزجة الناس باتت واضحة، ضجر مخفي قلق يعيث بالمشاريع التي كانت مزمعة.
وما تتناقله النساء في لقاءاتهن على أطراف أبواب المنازل كان الرجال يلوكونه بخوف في سهراتهم البعيدة، والذين كانوا يخجلون من الفضول باتوا أقل تحفظا ولاحقوا مجريات ما يحدث، ولعل أكثر السعداء في تلك الأيام كانوا العشاق الذين فرحوا بخواء الشوارع.
في ذلك الظلام نفذت غارات الشبيحة وانتقام الثائرين وثأر البعض من غرمائهم، فيما انتشرت مشاعر مبهمة تشي بأن أمور خطيرة وغامضة تطبخ على نار وأمور تدبر بليل.
في الصباحات التالية كان الناس يقفون على آثار حوادث الليلة السابقة، محلات محروقة، رسائل ومنشورات انتشرت في الأسواق، وإشاعات لم يكن من السهل التحقق منها، وزاد المشهد خطورة حين طالت بعض اللحى لتنعكس بعبارات راحت تتردد على ألسنة البعض وعلى جدران المدينة.
القذائف التي بدأت خجولة وطائشة صارت أكثر انتظاما ودقة، الجنود الكسالى والمنتفعين في جيش النظام صاروا أكثر خبرة في استعمال المدافع والصواريخ، والطائرات التي لم تكن ذات تأثير صارت رعبا يحسب له الناس كل الحساب.
اجتماعات واتفاقيات كانت تملئ ليالي النشطاء، ورغم صدق البعض منهم في الوصول إلى انتظام مقبول للحياة في المدينة، إلا أن الأمر لم يحتاج إلا إلى مفسد واحد حتى تذهب الجهود أدراج الرياح، وتمسح الشمس ما خطه المساء.
لكن نسمات من الحرية كانت تنعش الأنفس، وعبء القمع القديم راح يزول شيئا فشيئا، طردا مع قمع جديد راح يحضر ليملئ مكان القديم، ما كان مباحا في زمن النظام بات أكثر حراما في زمن الثورة، والعكس صحيح.
مع الأيام ازدادت سطوة القصف ما زاد في ارتفاع صوت اللحى التي استغلت خوف الناس لتقصي كل من استنكر انحراف الثورة نحو التطرف، ولم تطل الفترة حتى بات نشطاء الثورة الأوائل في عداد المتهمين والموضوعين على قائمة الأسماء المطلوبة لكل من سيطر على الأرض من داعش وداحش، النشطاء الذين لم يكن ينقصهم من الأسباب لمغادرة البلاد، بعد أن استنزفوا كل طاقتهم في السنوات الماضية، لكن خوفهم من عناصر المجموعات الملتحية كان أكبر بكثير من خوفهم من النظام، فبينما كان الأخير قد تم فرزه وضمان المسافة فيما بينه وبين النشطاء، راح الفريق الأول يتغلغل في عمق العلاقات الاجتماعية ما فرض نوعا من التداخل صار من الصعب معرفة من أين ستأتي الطعنة للثائر.
كما نشأت في وقت مبكر من تلك الفترة قوى كان لها وجه متغير، اختارت بذكاء عدم الانحياز إلى جهة دون أخرى لتترك مجالا لها في قابل الأيام للاختيار حيثما تميل الكفة، هذا الذكاء لم يصمد أمام حدة التطرف الذي اجتثها معتبرا إياها إحدى الفصائل المعتدلة.
في تلك الفترة انقلبت الوجوه، ولم يعد الصديق ليأمن صديق الأمس، فالولاءات تغيرت، والخوف كان العنوان الذي غير الناس فيه انتماءاتهم تحته.
في ذلك الوقت المبكر حينما ضاعت بوصلة الثورة، وتموهت أهدافها ما بين الحرية والكرامة والشرع والدين والأمة والجهاد، وتغيرت مفردات السلام والتحية إلى مفردات غريبة ليس أقلها يا شيخ وجزاك الله خيرا، كان واضحا أن ثورة لم تدرك ما تريد لن تستطيع الصمود أمام نظام يخطط ويفكر ليطمس الكرامة بالإرهاب والحرية بالفوضى.