فرنسا هي من أعاد رفعت الأسد إلى سوريا

منذ مغادرته سوريا، أي منذ نحو اربعين عاما، حل رفعت الأسد ضيفا على أوروبا التي استقبلت ثروته بالترحيب. راح يستثمر في ماربيا وفي باريس ويشيد الشركات في الجنات الضريبية تحت انظار النظام المالي الأوروبي. ونحن بدورنا لم يلفتنا هذا التفصيل أثناء تعويلنا على “القيم الأوروبية”.

الأصوات التي ارتفعت مذهولة من عودة جزار حماه رفعت الأسد الى سوريا، لم يلفتها ان الرجل لم يعد إليها من طهران ولا من موسكو ولا من بيروت. الرجل عاد الى دمشق من فرنسا، البلد الذي من المفترض ان لا تتيح قيمه وقوانينه أن يقيم رجل مثل رفعت الاسد فيه، وهي حين أصدر قضاؤها حكماً بسجنه، فعل ذلك لأسباب تتعلق بتبييض الأموال فيها، وليس بسبب سجله الإجرامي في سوريا. لا بل ان فرنسا كانت طرفاً بقرار مغادرة رفعت أراضيها تفاديا للسجن، فهو غادرها عبر المطار وتحت أنظار سلطاتها، والارجح انه فعلها برعايتها وبتنسيق معها. وربما كانت صفقة العودة جزءاً من صفقة أكبر، قد تشمل لبنان والأردن.

يردنا هذا إلى حقائق كنا اغفلناها على مدى السنوات العشر الفائتة، والتي توهمنا خلالها أن ما يجري في سوريا ينطوي أيضا على حرب قيم من المفترض ان منظومة غربية تقف معنا فيها، في مواجهة ما يمثله النظام في سوريا من قيم إجرامية! وامتد هذا الإغفال ليشمل تغاضينا، باستثناء نخبة ضعيفة التأثير، عن موبقات كل من توهمنا انه وقف معنا. فكان لتركيا مثلا الدور الأكبر في تفشي “داعش” في جسم ثورتنا، وهو ما كان عاملا رئيسا في هزيمتنا، وها نحن الى اليوم لم نجرٍ مراجعة لمسؤولية تركيا عن هزيمتنا، لا بل نواصل اشاحة النظر عن انخراط انقرة في تسويات مع موسكو على حساب قضيتنا.

مجزرة حماه أعقبها تواطؤ دولي وصل إلى حد القبول، وإلى حد استضافة مرتكبها 40 عاماً في أوروبا. لا يعني ذلك على الإطلاق دعوة للحرب على أوروبا وقيمها، ولا يعني طبعاً قبولاً بفعلة فرنسا، إنما هو مجرد تأمل بما آلت إليه أحوالنا من سوء، ومجرد دعوة للاستفادة، بانتظار أن تلوح فرصة أخرى للسياسة.

لكن وبالعودة الى واقعة ايفاد باريس رفعت الأسد الى دمشق لإعفائه من العقوبة التي قررها قضاؤها بحقه، فهذه واقعة لها ما بعدها. فرنسا اليوم في موقع مختلف تماما حيال قضايانا. الانكفاء الأميركي اتاح لباريس مساحة تحرك قررت ان تملأها بالموبقات. فرنسا بلد مرهق اقتصاديا وسياسيا، وقرر ان مصالحه تتقدم قيمه. إيران سوق اقتصادي والعراق (وهو عراق ايران) يمثل مصلحة تقتضي تغيير قواعد اللعبة في سبيلها، ولبنان (وهو ايضا لبنان ايران) حزب الله فيه واقع قررت باريس ان تقبله، لا بل ان تعترف بتصدره.

وفي موازاة ذلك ترعى باريس، وبنسبة اقل واشنطن، خطوات التقارب التي تجريها عمان مع النظام في دمشق. مع ما يمثله هذا التقارب من مخاوف على نحو أكثر من مليون نازح سوري في الأردن، وهؤلاء بدأت إجراءات خفض إغاثتهم والضغط عليهم بانتظار البت بمصيرهم في ضوء التسوية التي تلوح بين عمان ونظام دمشق. وذريعة السلطة الهاشمية، ومن ورائها القاهرة وبغداد، أنها تنوي انتشال النظام السوري من أحضان طهران، على ما ينطوي عليه هذا الوهم من استحالة.

يعيدنا ذلك الى العودة “الميمونة” لرفعت الأسد الى دمشق. فالرجل ومنذ مغادرته سوريا، أي منذ نحو اربعين عاما، حل ضيفا على أوروبا التي استقبلت ثروته بالترحيب. راح يستثمر في ماربيا وفي باريس ويشيد الشركات في الجنات الضريبية تحت انظار النظام المالي الأوروبي. ونحن بدورنا لم يلفتنا هذا التفصيل أثناء تعويلنا على “القيم الأوروبية” في مواجهتنا للنظام الدموي في دمشق. ولضعف حساسيتنا هذا مصادر أخرى ليس أقلها أننا لم نكن بمنأى عن مضامين ثقافية انقسامية صدر عنها النظام نفسه.

أعفينا تركيا السنية من المساءلة، وتوهمنا ان عمان لن تقوى على الاصطفاف مع بشار الاسد بحكم ما تشكله درعا، ضحيته الأولى، من خاصرة لعشائرها الممتدة إلى جنوب سوريا، وضربنا عماء رهيب حال دون استعادتنا لحقيقة ان جزار حماه يقيم بين ماربيا وباريس. وواصلنا العلاقة مع دول الخليج على رغم تحققنا من تمويلها فصائل إسلامية تولت طعن ثورتنا في ظهرها.

عاد رفعت إلى سوريا. لن يكون له دور في النظام، والأرجح أن العائلة وتوازناتها أملت القبول بهذه العودة. لكن الحدث مؤشر يجب أن نجري في ضوئه مراجعة، طالما أن خطاب الاعتراض على النظام صار خارج السياسة. الذهول الذي ولده خبر العودة، ومحاولة إضافته إلى القرائن على أننا حيال نظام مجرم، أو حيال رجل صاحب سجل دموي، لا يقدم جديداً.

مجزرة حماه أعقبها تواطؤ دولي وصل إلى حد القبول، وإلى حد استضافة مرتكبها 40 عاماً في أوروبا. لا يعني ذلك على الإطلاق دعوة للحرب على أوروبا وقيمها، ولا يعني طبعاً قبولاً بفعلة فرنسا، إنما هو مجرد تأمل بما آلت إليه أحوالنا من سوء، ومجرد دعوة للاستفادة، بانتظار أن تلوح فرصة أخرى للسياسة.

المصدر: حازم الأمين – الدرج

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*