في خمس دقائق

زيتون – سحر الأحمد

هنا.. بهذه النقطة تحديداً، أستطيع أن أرصد، القادمين والمغادرين، بكل اتجاهاتهم.

فأنا على موعد مع صديقتي، التي سألقاها بمحطة (شاتلية) على مفترق مترو 4، حيث سنكمل سوياً لرؤية بعض الأصدقاء.

الحقيقة لقد وصلتُ قبل الموعد بخمس دقائق، من طبعي الارتباك عندما أكون بالانتظار، يلفني شعور الوحدة والوحشة، مما يجعلني أبتكر أي تصرف، يخرجني من الحالة، مثل قراءة مقالة على هاتفي، أو تدوين خاطرة، أو اختلاس النظر على من حولي من الناس، وأصدقكم القول، أني أستمتع بهذا المزاج، ففي أوقات ضجري أقصد المقاهي، أشرب قهوتي السادة، وأنا أتفحص وجوه المارّة الذين يحركوا في دواخلي أسئلة كثيرة، دون قصد منهم، خصوصاً أيام الشتاء الماطرة، أجلس في ركني الدافىء، أطيل النظر من خلال الزجاج إليهم وهم مسرعين ليتفادوا المطر والهواء البارد، وأركّز على الوجوه بكل تقلبات مزاجها، التي تحكي شيء من شخصية صاحبها الذي يلبسها، فيمضي الوقت بي دون حساب.

احتلتُ على غضبي بالوصول الباكر، بممارسة هوايتي بالنظر إلى من حولي، كسارق لم يسرق من أحد شيئاً.

نظراتي متعثرة، يخونني التركيز على ذلك الرجل الممدد بمحاذاة الركيزة الإسمنتية، أقف هنا مرغمة كي التقط صديقتي ونمضي سريعاً من هذا المكان، لطالما كان رأيي بمحطات المترو التي أُنشأت مما ينوف عن مئتي سنة أنها تناسب أشخاصاً يجيدون رياضة المشي السريع، أما كبار السن دايماً لهم الله.

حلَت الدول الغربية جزء من مشكلتها مع الكثافة السكانية، وتزايد عدد السيارات والحافلات، والخنقة المرورية على الأرض، بأن استعاضت تحت الأرض بعالم المترو، حيث الحياة فيه أسرع للناس باختلاف وجهاتهم داخل المدينة.

أنا شخصياً، ومثلي كثر على ما أعتقد، أكره تواجدي تحت الأرض، حتى لو كانت الحالة آنية، هذا المكان موطن الجرذان منذ الأزل، نحن البشر اغتصبنا خصوصيتهم، وشاركناهم محل إقامتهم مع الجوارير المستترة، أحياناً يمر بجانبنا أحدهم ويكمل طريقه مسرعاً بكل سلام دون مشاكسات أو وقوع خسائر من الطرفين، كأنه تقبل الآخر فينا بحكم الجوار.

بهذه الدقائق الطويلة لا شيء يدعو للمتعة، المحطة مكتظة بالناس المسرعة، والمكان تسيطر عليه رائحة تبول السكارى من الليالي الفائتة، وذاك الأربعيني مازال ملقى على ظهره، بمحاذاة الصرح الإسمنتي، غارق في نومه وكأن هذا العالم من حوله غير موجود، لقد نسي يديه داخل سرواله، ومازال قابضاً على أجهزته البولية والتناسلية، خشية عليهم من السرقة ربما!

يخفي وجهه بقبعة اختلطت ألوانها الداكنة، مع الأوساخ العتيقة، حتى صارت جزءً منها، أما قميصه وبنطاله رغم ما تراكم عليهما من مخلفات الطعام، إلا أنهما ما زالا بحالة لا بأس بها، كان يضع حذائه تحت رأسه ليكون وسادته من جهة حتى لو كانت غير مريحة، ومن جهة أخرى يضمن في حال استيقاظه أنه سيجده مكانه ولم يسرقه أحدهم فيضطر بعد ذلك أن يمشي عاري القدمين، وهذا طبعاً لا يليق برجل قرر أن يتخذ جزءً من هذا الركن المباح للجميع، ليكون غرفة نومه.

بجانبه مجموعة متنوعة من لفائف الطعام والعصائر، تركها له أصحاب القلوب الرحيمة، لأنهم يؤمنون أنه قد غفا وهو يتضور جوعاً، فعندما يصحو سيكون فرحه عارماً وهو يلتهم ما يشبع جوعه وعطشه، وأكيد سيكون ممتناً وهو يردد في سره أو في العلن التمنيات بالخير والسعادة، لمن فاجأه بهذه العطايا.

أرى الدقائق الخمس المتبقية على موعدي، تستقر في عيوني الهائمة، تسخر مني منتشية لحالتي هذه، فيما أنا أتلفت باحثة عن صديقتي، علّها تظهر، وإذ بشاب بيده كيس شفاف يُظهر ما بداخله من الحلويات والفواكه، أتخذ وضعية القرفصاء بجانب (رجل الكهف) وراح يحدق به ملياً لعدة ثوان، كما أفعل الأن أنا لعلي أفهم ما يرمي إليه الشاب.. لم أتبين أهو يتحدث إليه والآخر لا يدري به؟ أم أنه يستعيد به حدثاً مُراً  كان قد نسيه؟ لملم الشاب وليمة الرجل النائم وزجها مع العصائر في كيسه وتركه قبالة رجلنا وبلمحة اختفى بين الزحام.

هزني صوت صديقتي وهي تعتذر على تأخرها علي خمس دقائق، وقبل أن نتحرك باتجاه مشوارنا، ظهر أمامنا الشاب ذو الكيس، كانت تبدو على وجهه علامات الغضب، سألني وهو ينظر إلى تلك الكتلة النائمة، هل رأيتي من سرق الكيس الذي كان بجانب ذلك الرجل النائم؟ فيما كان يطرح علي سؤاله كانت رفيقتي تسألني باستغراب ما قصة الكيس؟ وأنا والشاب ننظر باتجاه النائم الغائب الحاضر، في هذه اللحظة أحسست أني تحولت الى فقاعة كبيرة ممتلئة بالدهشة والاستغراب، أيعقل أن يسرق أحدهم وجبة متشرد بائس؟ تفجرت فقاعتي وخرج منها مئات الأفواه حتى ملأت عالم المترو، فتسمر كل المارَة للمشهد واتجهت عيونهم على الأفواه التي كانت تصدح بصوت واحد، من سرق طعام المتشرد الجائع؟.. هل هو الإنسان أم الجرذان؟ 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*