من يعرف ذلك الشيخ في الرواية يمكنه أن يعرف أبو عاصف والعكس صحيح، فقصة الصياد العجوز الذي عاش عمره يصارع حظه العاثر الذي حرمه مؤخرا من اصطياد سمكة لمدة 85 يوما، تلتقي بقصة أبو عاصف الذي أمضى حياته في مواجهة أنظمة القتل والسجن في سوريا، كما يمكن رؤية ذلك التشابه المؤلم في ذهاب العجوز في البحر بعيدا، مصمما على اصطياد سمكة كبيرة، وصراعه مع البحر والرياح وأسماك القرش، مع ما عاشه أبو عاصف في ثورته وحربه الطويلة ضد النظام والفصائل بشتى أنواعها والمنتفعين ممن تصدروا العمل الثوري والعسكري.
الشيخ والثورة
لقد ذهب بعيدا في الثورة متسلحا بما لديه من خبرة سياسية وتنظيمية سابقة، متجاوزا سنه ومرضه، بشجاعة لم يفهمها الكثير من أبناء بلده، كيف لهذا العجوز أن يبحر في المجهول كل هذا الإبحار والبعد؟، من أين له كل هذا الإيمان واليقين والثبات؟ كيف تمكن أن يكون مرجعا للرافضين الذين لم يعرفوا ماذا سيفعلون لاحقا؟ في وقت التبس الليل بالنهار وضاعت البوصلة واختلف على الناس الحق بالباطل والدين بالكذب والثورة بالثروة.
كان أبو عاصف ابن السبعين عاما يقف بين الشبان في أول صلاة على شهداء درعا في تحدي للنظام أمام مسجد الزاوية في مدينته سراقب، ويدرك العارفون بتلك الفترة ما مثله أبو عاصف كمنظر للثورة وبصدره الواسع وقلبه الكبير وشجاعته الواثقة من كل الأشباح التي كانت تبث خوفها بين الناس من النظام السوري إلى المتأسلمين الجدد الذين بدأوا يظهرون في شوارع المدينة، إلى المنفلتين من المتعجلين بحمل السلاح وأسلمة الثورة.
وبما سبق تحول الرجل إلى حجر أساس في أي عمل ثوري وشعبي بي البلدة، ليسارع إليه النشطاء إن كان هناك حاجة لحراك مهم أو عمل سياسي أو ثقافي وحتى اجتماعي، ولم يتوانى بما لديه من سنوات ومرض عن المشاركة في أي مساعدة، حاضرا كل المظاهرات والاجتماعات والمناقشات، لا هدف لديه سوى “سوريا الديمقراطية التعددية المدنية” تلك العبارة التي ظل يرددها كلما سنحت له الفرصة.
وأبو عاصف لمن لا يعرفه هو حسين أمارة من مواليد سراقب 1948، أحد مؤسسي رابطة العمل الشيوعي، ومؤسس التجمع الثوري السوري، وأحد منظري لجان إحياء المجتمع المدني عام 2001، تعرض للاعتقال السياسي من قبل نظام الأسد عام 1977 وحتى 1980، كما اعتقل بين عامي 1985 وحتى عام 1992.
شارك في اعتصام القصر العدلي بدمشق عام 2005، وكان من أول المشاركين بالثورة السورية والمظاهرات 2011 بفاعلية وبحضور أغنى المظاهرات بفكر معتدل وعميق وبنظرة سياسية واقعية في مدينته سراقب.
كتب الكثير من المقالات حول أحقية الثورة، ومدنيتها، بقلمه كتب المئات من الصفحات ليرسلها للوسائل المتاحة في ذلك الوقت، ليحمي الثورة، كما حذر من تسليحها بوقت مبكر وانحرافها من قبل المجموعات المتطرفة، وعلى رأسها جبهة النصرة وداعش. معروف عنه نشاطه في أي حراك سياسي أو ثورة تساهم في بناء سوريا الديمقراطية.
احتفى بالثورة بكل ما لديه
فرحا بتحرر شعبه من ظلم النظام القديم، وسعى بعزيمة سنوات عمره وبإنسانية لافتة ليوصل حراك أهله بر الأمان ضد نظام الأسد، ولم يضن بأبنائه فهو أب لشهيد ومصاب، كما انتفض بغضب ورجولة في وجه الوافدين من أصحاب اللحى الزائفة والمتقنعين بالدين من زعماء النصرة وداعش وأذنابهم حتى باتوا يحسبون حسابه في تصرفاتهم، في وقت داهن الكثيرون فيه تلك الفصائل مؤثرين السلامة أو المنفعة عن المبدأ.
في حوار سابق أجرته جريدة زيتون معه في عام 2016، يحمل فيه مسؤولية فشل الحراك السياسي للمجموعات المتطرفة من النصرة وداعش قائلا:
“هَيمنة جبهة النصرة التي تحولت لاحقاً إلى هيئة تحرير الشام، التي حاولت تخويف وترعيب وإرسال التهديدات والتشهير بكل التجمعات المدنية التي كانت في سراقب، على أنها علمانية وتكفيرية الخ، لذلك لم نستطيع النهوض بأنفسنا وتوسيع القاعدة الشعبية كما يَجب، بسبب التخوف من إرهاب هيئة تحرير الشام بشكل أساسي”.
كما انتقد باقي الفصائل مشيرا إلى: ” بِجُهد وعمل الفصائل العسكرية منع المدنيين والقِوى المدنية من تكوين نفسها ومخاطبة الشارع، بسبب حالة التنافس بين القادة العسكريين وشعورِهم بأنهم الطرف الأقوى وخلطهم بين السياسة والعسكرة وفرض رأيهم بأن تكون الساحة لهم، وبالتالي لهم أحقية بإدارة المدن لامتلاكهم السلاح، وللأسف هم لا يمتلكون القدرة على ذلك وفشلوا بإدارة المناطق المحررة، ورغم ذلك لم يقتنعوا بالتيارات المدنية والتجمعات السياسية التي بدأت تظهر في الساحة السورية، كي لا تُشكِل منافسة لهم وتنبه الناس إلى أفعالهم التي كانت تضر أحياناً بمصالح المدنيين”.
ونبه لخطر تحول الثورة السورية لورقة في المساومات الدولية قبيل تقدم قوات النظام في إدلب: “كثرة الحديث واللغط عن مصير إدلب إلى ضبابية المشهد السياسي، فاتفاقات أستانة المعلن منها “مناطق خفض التصعيد الأربعة”، أما البنود فقد ظلت سرية، والتصريحات التركية الأخيرة من إمكانية انهيار أستانة في حال تقدم الروس والنظام عززت مخاوف الأهالي في إدلب كما زاد من التعمية المستقبلية، يعزز هذه المخاوف قناعة السوريين بالغدر الروسي والموقف التركي الرخو والمرتبط فقط وفقط بمصالح الأتراك الأمنية”.
لقراءة الحوار كاملا:
https://tinyurl.com/yc39wkb5
في نعيه يوصي صديقه عبد الرزاق كنجو: “يا صاحب الوجه الأبيض والقلب الطيب والشعر الأشيب، عاش سواد الحياة وظلمة السجون، لم يشكو ولم يتظلّم، هادئ المحيّا يستمع إليك بصمت تظنه خجولاً مطرق الرأس نحو الأرض التي أحبها وأحبته، لكنه ينتفض كالسبع الهصور في وجه الطغاة إن مسّ فكره اليساري زيف أو اعتدى أو اقترب”.
مضيفا: “يتصدر المظاهرات ولا يحب الظهور ويكره التصوير، أولاده بين شهيد ومصاب، وصيتي إن عادت سراقب لأهلها وهي بالتأكيد عائدة وستعود: أطلقوا على الساحة التي كانت تنطلق منها المظاهرات أمام مسجد الزاوية اسم: “مـيـدان حـسـيـن أمـاره”
سراقب حزينة لأجلك .وكل سوري عرفك حزين
في صباح الأمس غصت صفحات التواصل الاجتماعي بصوره، أبناء بلدته يودعون صديقهم ومعلمهم وبطلهم، الكثير منهم لم تسعفهم الكلمات، بل خانتهم اللغة في أن يختصروا سبعين عاما من القتال والنضال والسجن في كلمات معدودة، بعضهم دعا لتسمية ساحة المظاهرات باسمه، بعضهم استذكروا عذابه ومعاناته في السجن والحياة.
يقول جاره في الحي ورفيقه في المظاهرات “حسن أبو محمد” في وداعه:
“الأستاذ المربي الفاضل حسين أماره رحمك الله، سراقب تودع بطل من أبطال ثورتها الشرفاء، نعزي أنفسنا وعائلته بفقدان علم من أعلام الثورة السورية”.
ويضيف صديقه “احمد باكير”: “المناضل ضد استبداد الأب والابن ومن شابههم، المعتقل اثنا عشر عاما كمناضل في حزب العمل الشيوعي، في سجون الأسد، نصير الفقراء ومن أوائل ثوار ٢٠١١ ثورة الكرامة والعدل، فارق اليوم الحياة قبل تحقيق حلمه بسورية الكرامة، اثر عمل جراحي.. سراقب حزينة لأجلك .وكل سوري عرفك حزين”..
ونشرت “ربا رقية” أسفها على رحيله قبل أن يرى نصر ثورته قائلة: “الله يرحمك يا أيها الحر، لم تكتحل عيونك بالنصر، ولكنك كنت الجسر لعبور الأجيال القادمة نحو الحرية والكرامة والديمقراطية التي لا يعرفها إلا القليل”.
عبد الرزاق باريش كتب على صفحته: “حسين أمارة أبو عاصف عاش مناضلا شرسا في وجه الطغاة بشتى صنوفهم ومات نازحا وفقيرا السلام لروحك وستبقى ذكراك رمزا نضاليا شريفا”
فراس الحسين أبو منار كتب: “الحقيقة نحن نعزى لا نعزي بك أيها الرجل الشهم والأصيل والمعارض لكل أشكال الظلم والاستبداد عشت شريف ومت شريف ولكن ومع الأسف مهجر مكسور الجناح”.
كما نعاه صديقه فخر زيدان قائلا: “رفيق السجن والقهر..صاحب الفكر الوقاد والرزين. صاحب المبدأ المكين.. اخبرني بعد خروجه من سراقب مقهوراً قال لي: لقد نزحت يا فخر إلى الشمال. ونسكن في شبه كراج، وخليها لربك”.
في نهاية القصة وبعد أن يقضي القرش على سمكته بالكامل، تتصاعد معاناة العجوز من مرارة الهزيمة، ويجذف بقاربه صوب الشاطئ تاركاً الهيكل العظمي للسمكة مربوطاً إلى القارب متجهاً صوب ذلك الكوخ وقد حلَّ به التعب واوهن حتى انكفأ على وجهه، في نهاية الرواية يتفق الطفل الذي أتى لتفقد العجوز بعد أن استرد بعض قوته على معاودة الإبحار من جديد.
من مقالات الراحل حسين أمارة:
في الذكرى الثانية للثورة
https://tinyurl.com/mwdz9wcc
مدنية الدولة ضرورة وليست خيارا
https://tinyurl.com/mujhtm4y
في مدنية الدولة أيضا
https://tinyurl.com/4znpt7wf