لا تسلني من أين أنا؟

زيتون – ياسمين محمد

أنا من شبه قرية قبل الثورة لم يكن يعرفها سوى أهلها وبعض أهالي القرى المجاورة، على خريطة العالم كانت موجودة باسم غير اسمها، تجدها على الخريطة باسم يعني الدم، ولا أعرف من أين جاء اسمها.
ليس لشكله أو غرابته بالنسبة للأطفال، في طفولتنا كان مجسم الكرة الأرضية في مدارسنا يجذبنا نحن أبناء القرية، وكنا كلما رأيناه أو دخلنا إلى غرفة الإدارة ننظر إليه بتمعن وفخر، وكأننا نود أن نقول للجميع بأن اسم قريتنا موجود على الكرة الأرضية، حتى ولو كان هناك اختلاف بحرف واحد.

أنا من قرية ريفية صغيرة، بسيطة حتى في ملامحها، تترامى منازل أهلها على جنبات الطريق، كل منزل ضمن أرض شاسعة لا تعرف نهايتها سوى من خيال منازل القرى المجاورة من الجنوب، والأتوستراد الدولي من الشمال، تسمح لك بذلك منازلها المتكونة من طابق واحد باستثناء بضعة منازل في حيّها الشرقي.

حيّين لا أكثر قريتي، امتدت بضعة منازل في الحي الشرقيّ جنوباً وشمالاً محاولةً التمرد والخروج عن سيطرته، وتشكيل أحياء إضافية، ولكن دون جدوى، بينما حافظ حيّها الغربيّ على أصالته.

في الشتاء تشبه مدن الأشباح، تخلو من غالبية أهلها، ولا تشتعل فيها سوى أنوار بضعة بيوت متفرقة، معظمها في الشرق، عدد سكانها الكليّ يضحكك لو عرفته، فكيف إن عرفت عدد المغتربين من أبنائها، وعدد المقيمين فيها طيلة العام!.

كمعظم شباب وصبايا القرية، لم أُولد فيها ولم أعش فيها، أزورها في المناسبات، وفي العطلة الصيفية هي مصيفنا وبحرنا وكنز منازلنا الشتوي، وبدل أن نذهب إلى البحر نصطاف فيها، ويلم شملنا مساءاً شارعها الوحيد، الذي يعج بكافة الأعمار من الرضيع إلى المسن، بينما يجمعنا نهاراً أحد بيوتها، الذي يكون دوره في إعداد المونة.

من يمر فيها صيفاً يظن نفسه قد أخطأ الطريق، في الشتاء خاوية وفي الصيف عامرة بالحب والفرح والنور والنشاط، ولا سيما في عطلة نهاية الأسبوع.

لن تصدق بأنها هي ذاتها تلك القرية التي كنت تسمع صوت الإبرة فيها، فيما أصوات ضحكات أهلها اليوم تصل إلى أبعد نقطة في سوريا، ويتفاجأ أهالي القرى المجاورة بشبان ورجال ربما يرونهم مرة كل عام يسبحون في نبع ماء متواضع في أجمل بقعة، أو عند البركة في ذات البقعة.
مكان لا يمكن للكلمات وصفه، أرضه صخور بركانية، بعضها محفور تملؤه مياه الأمطار، تفقز فوقها لتصل للضفة الأخرى، وبعضها اتخذ شكل مجلس ملكي تجد كرسي الملك في المنتصف محفور على جانبيه ما يشبه الطاولة المستديرة، يتسابق الصغار والكبار إلى الكرسي ليجلس البقية حول من فاز به.

في الربيع تمتلئ أرضه بالنباتات والأزهار المختلفة، وعلى الرغم من كثرتها تتراكض النسوة لجمع أكبر قدر ممكن منها، ولا تبقى سيدة في منزلها، ويصبح اعتماد الأهالي في وجباتهم الغذائية طيلة الفصل على ما تنتقيه النسوة كل يوم من أرضه التي يدعونها «السطح»، ودون ملل من الأطعمة المتكررة والنزهة اليومية يتمنى الجميع أن لا ينتهي الربيع، على الرغم من جمال الصيف فيها بالنسبة لهم، فهو أشبه بالحفلات والأعياد بالنسبة لهم.

أما الزعتر البري ذو الزهور البنفسجية، فهو لوحة بحد ذاته، لون أخضر متناسق مع البنفسجي، ورائحة فواحة، وطعم أشهى، وفوائد جمّة، ويقطفون منه ما يظنون أنه يكفيهم لأعوام، بينما هو في الواقع لن يكفيهم لأشهر، يقبلون على شربه بنهم في البداية ثم يبدؤون بالاقتصاد منه وتوفيره لنزلات البرد وآلام البطن والمعدة، يفضلونه على البابونج رغم اهتمامهم به وخزنهم له والاستفادة من فوائده الصحية هو الآخر.

في الصيف لا حاجة لهم بالأسواق، فالمزارعون من المدن والقرى وحتى من ريف دمشق، وبشكل خاص أهالي إنخل ودوما، يستأجرون أراضيها ويزرعونها ويبيعون محاصيلهم وخضراواتهم في سوق الهال وفي الأسواق التي تنتظم كل يوم في مدينة أو بلدة.

جمال قريتي لم ينل من نخوة رجالها ونبلهم الذين لم يبق منهم إلا القليل القليل بعد دخول متكرر لجيش النظام في محاولة لإخضاعهم، وبعد تحولها لمعقل للمنشقين عنه، وحصارها لفترة، كما كان لداعش دورة فيها لم تدم سوى ساعات، واليوم هي في برزخ من السيطرة ما بين النظام والمعارضة.

ذكريات وأعمار قتلتها الحرب وشردتنا وشتّتنا على قلة عددنا ما بين فرنسا والسويد والنمسا وهولندا وألمانيا وأمريكا ومناطق النظام والمناطق المحررة في سوريا، نسأل ونتواصل عبر هواتف خليوية، لم يكن لها في السابق مكان في جلساتنا وسهراتنا اليومية.
تضيع منا الكلمات، وكلما حاولنا الابتعاد تعود بنا إلى الذكريات، فتقتلنا الغصة ونصمت هاربين لننهي المحادثة، ليبقى لسان حالنا يردد ما ردده شاعر عربي عاشق لمكانه: «فليت ركاب القوم لم تقطع الغضى وليت الغضى ماشا الركاب لياليا».

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*