مكانة البيوت العربية القديمة لدى السوريين

زيتون – ياسمين جاني

ما بين الماضي والحاضر وما بين العراقة والحداثة، لا يخفى على أحد انتشار البيوت العربية بطريقة بنائها الفريدة في كل مدينة من مدن سوريا، تزين أحيائها وتضفي مزيجاً من الجمال والحضارة عليها.
ويعود تاريخ هذه البيوت الى مئات السنين، حرص أهلها على الحفاظ عليها واعتبروها تراثا تاريخيا وحضاريا، إضافة الى قيمتها العائلية والروحية لهم.

يدخل في بناء البيوت العربية القديمة الطين والخشب والحجر، إضافة إلى أسقف قرميدية تكون عادة للطابق الثاني، إذ غالبا ما تتكون من طابقين، يتوسط المنزل باحة كبيرة تسمى «ارض الدار» المفتوحة على السماء، يتوسطها بركة ماء تعطي جمالا خاصا للمنزل تدعى «البحرة»، وتتوزع حولها بقية الغرف، كغرفة الضيوف، والتي عادة ما تكون مفتوحة على أرض الدار، إضافة إلى «الليوان» وهو قاعة مرتفعة السقف محاطة بثلاث جدران مفتوحة على أرض الدار، تكون عادة في الجهة الجنوبية من المنزل وتنفتح من جهة الشمال على الفناء، يستقبل فيها الضيوف في أيام الصيف لبرودتها وزينتها، ترتفع عما حولها من غرف وباحة لتعطي الجالس راحة وأشراف على الباحة والبحرة.

وهناك ما يعرف ببيت «المونة»، وهي غرفة صغيرة تخزن فيها مئونة البيت تكون متطرفة بشكل ما عن باقي الغرف، أما غرف الطابق الثاني فتسمى الغرف العلوية، والتي عادة ما تكون صغيرة «النصية» إضافة إلى غرف النوم وغرف المعيشة.

وتحمل البيوت العربية إحدى طابعين، إما البساطة وعدم التكلف، ويتكون المنزل في هذا الحال من أسقف خشبية طينية وعدد قليل من الغرف وارض دار صغيرة وأثاث منزلي بسيط، يقتصر على الحصائر والبسط ووسائد من القش، وهو ما يدعى بالفرش العربي، وإما أن تحمل البيوت طابع الفخامة والغنى، وتتميز البيوت في هذه الحال بفسحة كبيرة تتوسطها بركة ماء ونوفرة مزينة بأجمل أنواع الرخام ،تزين أسقفها وجدرانها الفسيفساء والزخارف الهندسية الإسلامية، وبعضها يغطيها الخشب الملون والمحفور بمهارة هندسية رائعة، و تزيدها القناطر والفوانيس المشغولة بذوق يدوي رفيع على والمعلقة على الجدران جمالاً وروعة.

ولا يخلو البيت العربي من زينة الطبيعة من عرائش الياسمين، إلى رائحة زهر الليمون، وأنواع الزهور التي تملأ المنزل وتعطيه رونقاً خاصاً لا مثيل له، كما تغطي عريشة الدالية التي تنورها عناقيد العنب حيث يعتني أصحابها بها و يرعونها كاعتنائهم ورعايتهم لأطفالهم، فهي جزء أساسي من حياتهم، فتستفيض جمالًا فوق جمالها، وكأنها قطعة من الجنة على الأرض.

وتتسع الغرف في البيوت العربية الفخمة، لتغدو كالصالات المحلاة بأثاث مشغول من الخشب وبلمسة فنية فاتنة، حتى غدت الدار العربية ملهمة للشعراء الذين تغنوا بجمالها، وجمال كل تفصيل صغير فيها.
ولأن في مظهرها شيئاً من تاريخ الحضارة العربية القديمة، فقد تحول الكثير منها الى معالم سياحية مهمة، وتحول قسم كبير منها إلى مطاعم أو فنادق أو مراكز ثقافية وفنية تاريخية، وأصبحت وجهة سياحية هامة، تستقطب السياح من كافة بقاع العالم.

ولما لها من مكانة روحية واجتماعية مرتبطة بدفء الأسرة وحنان ونعيم المنزل يقول «أبو محمد» الستيني من أهالي جسر الشغور في ريف إدلب، إن بيته العربي أحب إلى قلبه من قصور الأرض، فقد عاش فيه طفولته وريعان شبابه، وتزوج فيه، وربى أطفاله، فالبيت العربي هو بيت العائلة، الذي يضم كل أفرادها سواء أكانوا متزوجين أم عزاب، يتشاركون فيه الحياة بكل تفاصيلها.

دمرت الطائرات بيت أبو محمد وتهدم قسم كبير منه، ولم يعد صالحاً للسكن، وانتقل ليعيش في بيت صغير مغلق، أشبه ما يكون بعلبة الكبريت، بلا روائح الحبق والياسمين، وبلا قهوة الصباح بجانب البحرة، يؤكد الستيني أنه قد دفن تحت ركام منزله، ذكريات عمره ومطارح صباه وأحلام شبابه.

أما عمار الذي يعيش الأن في ألمانيا، والذي نشأ وترعرع في بيت عربي، يقول أن أكثر ما يحن ويشتاق له في بلده هو بيته العربي القديم، وما زالت جلسات أهله في فسحة الدار حلماً يوجعه ، يحن إلى بركة الماء، وإلى خضرة البيت، ويذكر كل الزوايا والأماكن المهملة فيه، ويتمنى لو يعود إلى بيته ليستعيد السلام الذي افتقده منذ خروجه منه.

وهاهو بعد خروجه من داره بثلاثين سنة يقول الشاعر نزار قباني انه يذكر كل تفاصيل الحياة التي عاشها في بيته القديم في دمشق حيث: «أستطيع أن أغمض عيني، وأستعيد، بعد ثلاثين سنة، مجلس أبي في صحن الدار، وأمامه فنجان قهوته، ومنقله، وعلبة تبغه، وجريدته.. وعلى صفحات الجريدة تتساقط كل خمس دقائق زهرة ياسمينة بيضاء، كأنها رسالة حب قادمة من السماء».

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*