من طوابير المساعدات إلى تاجر ناجح

زيتون – غسان شعبان
«لم أكن أتوقع أن بضع كلمات قاسية قيلت لي، ونظرة احتقار من موظف في إحدى الجمعيات الخيرية التي تساعد اللاجئين السوريين في تركيا، ستحولني إلى تاجر يمنح فرص العمل والعيش الكريم لعشرات العائلات ويعتز بذلك.
من هنا ينطلق «محمد سعيد» تاجر المواد الغذائية المقيم في مقاطعة هاتاي التركية ،وهو يروي لزيتون مسيرة نجاحه في عمله وتحوله من لاجئ ينتظر سلال المساعدات والإغاثة إلى رجل أعمال يضيف بإمكانياته الفردية شيئا إلى الحياة ويؤثر فيها.

يقول محمد: «خرجت من سوريا ككل السوريين الفارين من الموت، لم أحمل معي الكثير، حقيبة لحاجيات أطفالي، ومبلغ صغير من المال هو كل ما أمكنني جمعه من حياتي السابقة، يكفي لكي أستقر في منزل بتركيا لبضعة شهور، لكنه لا يتيح لي أن أؤسس عملاً، وسرعان ما تبخر نتيجة لارتفاع تكاليف الحياة في تركيا.

لم أتوقف عن البحث عن عمل يحفظ لي كرامتي ويضمن لي بقائي في تركيا، رغم كل الصعوبات التي كانت تعترض سبيلي من افتقاري للغة التركية إلى استغلال حاجة السوريين للعمل وبخسهم أجورهم، إلى ضيق سوق العمل بشكل عام».

«اضطررت في مرحلة ما إلى الاستعانة بمكاتب مساعدة اللاجئين، شعرت بالحياء من مزاحمتي لأناس ضعفاء تبدو عليهم علامات الفاقة والحاجة أغلبهن من النساء، أحسست بالألم لأنني لا أحب أن أكون في هذا الموقف، أنا واثق من أنني قادر على أن أقوم بعمل أكثر من الوقوف أمام مكاتب المساعدات، هكذا كنت أفكر.. لم يكن ينقصني سوى بعض الوقت للتفكير وقليلاً من والتوفيق.
محمد الذي نشأ في إحدى قرى ريف إدلب، وهو مجتمع يعتمد بشكل كلي على تصنيع مؤنته بنفسه، ولا يخلو موسم للخضار إلا وتقوم العائلات بشراء وتخزين ما تحتاجه للعام كله، ما دفعه إلى التفكير بالقيام بما يتقنه وما يحتاج إليه السوريون في بلد تختلف فيه ثقافة الطعام إلى حد ما، عن ثقافة القادمين من الشمال السوري خاصة وهم غالبية المتواجدين في المنطقة، ومن اعتياد أطفاله لبعض الأنواع من الطعام التي لم تكن متوافرة كالملوخية والباذنجان المقدد وغيرها، راح يسأل عن امكانية توفير هذه المواد.

ويبدي محمد سعادته في تذكره لبدايات عمله في بيته مع عائلته، حين بدأ بتجفيف بعض المواد تحضيراً لبيعها، ويروي بفخر عن مساعدة أطفاله الصغار له في تقطيع أوراق الملوخية أو تجفيف حبات الفلفل الأحمر أو غيرها من الأعمال التي راح يتعلم طريقة تحضيرها.

«كانت لدي بعض الخبرة في إدارة الأعمال التجارية بشكل متواضع، كما كان لدي العزيمة وهذا كل ما كنت أحتاج إليه، ولقناعتي بفاعلية العمل الجماعي وجدوى تضافر الجهود، قمت بالتنسيق مع عدة عائلات من أجل تصنيع المؤن المجففة بجودة عالية، جل العائلات السورية كانت متحمسة للعمل، فهو يحقق لها الدخل المطلوب بالشكل المناسب لها وهو عمل النساء في بيوتهن، كانت المخاطرة كبيرة رغم صغر المبالغ نظراً لإمكانياتنا المحدودة، لكنني أقدمت عليه.

وبدأت بالبحث عن أفضل الطرق في التجفيف والتخزين، ولم أبخل على المواد بما تحتاجه لكي تكون بأفضل ما يمكن، وحاولت تأمين المواد الأولية في الحفظ كزيت الزيتون الأصلي من المعصرة مثلاً، وذلك كي لا يشوب المواد أي غش أو ما يمكن أن يغير في جودة البضاعة.

ثم قمت بالخطوة الأولى وتمكنت من استئجار محل لتصريف ما أنوي صناعته من المواد المجففة، كان محلاً بسيطاً استطعت تحويله إلى مكان نظيف يوحي بالثقة».
يتابع محمد: لم نكن نساوم على جودة المواد وتمكنت بمساعدة العائلات على ترسيخ سمعة طيبة لنا في السوق المحلية، ما دفع الزبائن السوريين إلى طلب بضاعتنا بشكل خاص، تبعهم بعض الأتراك فيما بعد.
«ومع قليل من الصبر، تواردت علي عروض الطلبات لشراء المواد بالجملة، تزامنت مع طلبات من عائلات بالعمل معنا، لم أكن أنوي التقوقع، فقبلت بالقليل من الربح مقابل أن يعمل أكبر قدر من السوريين معي، وكانت هي الفكرة الصحيحة التي سمحت لي بان أتوسع بشكل كبير بالعمل، فتقاسمنا العمل وتخصصت كل عائلة بصناعة قسم من المواد وبمواصفات محددة، كما حاولنا أن ننوع في موادنا حتى لا نعتمد على صنف محدد».

ويضيف محمد: بعد ستة أشهر من العمل تمكنا من شراء شاحنة صغيرة، قمنا بتوزيع بضاعتنا على المحال، ما دفعنا إلى التفكير في تأمين المواد الأولية والتواصل مع المزارعين لتوفير مبالغ الشحن والوساطة بين التجار، وهو ما ساهم بتوسيع فريق عملنا وتشغيل يدٍ عاملةٍ أكثر من شريحة الشباب.
«التوفيق يترافق مع العمل» فقد اقترح عليه أحد معارفه وهو سائق في أحد المخابز السورية الكبيرة في المنطقة، على أن يقوم بترويج بضاعته في المدن التي يوصل إليها الخبز، فهو بطبيعة الحال يزورها بشكل يومي، وعلى علاقة طيبة بمعظم أصحاب المحال والبقاليات، وهي فرصة ساهمت بتصريف كميات كبيرة من المواد المنتجة لدى محمد، وزيادة الطلب عليها.

ويؤكد محمد أن من أكثر الأشياء التي تمسك بها هو إعطاء العاملين معه حقهم، دون استغلال لحاجتهم للعمل، فلم يكن يرغب في أن يتحول إلى شخص يشبه أولئك الذين استغلوه، وفضل الربح القليل المستمر على الربح الكبير المنقطع وهو ما ساهم بتحسين سمعته وسمعة بضاعته.

وفي كل ذلك كانت زوجته التي سهرت الليالي على توضيب وتصنيع وحفظ المؤن الحجر الأساس في نجاحه، فهي صاحبة الخبرة والحريصة منذ البداية على كل صغيرة وكبيرة، تعاملت مع العملية على أنها مؤنة بيتها، ولم تتساهل في نظافتها أو جودة محتوياتها، وهو ما يؤكده محمد حين يشير إلى فضلها الكبير على عمله، لا سيما فيما بعد انضمام بعض العائلات لهم، فقط قامت بالإشراف عليهم وتوجيههم، كما قامت بمحاولة حل بعض المشاكل التي اعترضتهم كضيق المكان ونظافته، وإليها يعود الفضل في تامين مستودع مجاني يكون مشغلاً لهن ومكاناً لحفظ المواد فيما بعد.

لا ينكر محمد أن مصاعب كثيرة اعترضته، كطلب التراخيص من قبل البلدية، وجهله اللغة التركية، والتنسيق بين العائلات، وتأمين المواد الأولية بأسعار معقولة، وهي صعوبات ما كان له من تجاوزها لولا العمل الجماعي الذي كانت تشاركه به عائلته وباقي العائلات.

محمد سعيد الذي لا يخفي سعادته بما حققه يؤكد أن فخره الوحيد هو تمكنه من مساعدة الناس وتأمين فرص العمل لهم، ناصحاً كل السوريين في كل مكان أن يتعاونوا فيما بينهم على إنجاح أعمالهم بالتكامل وليس المزاحمة، وأن لا يخشوا المنافسة، ويبذلوا قصارى جهدهم في تحسين صورة السوري الذي لا تليق به طوابير الاغاثة، حتى يتمكنوا من العيش بكرامتهم التي خرجوا من بيوتهم من أجلها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*