نهايات أيلول

زيتون 

مع نسمات الشتاء الأولى في أواخر شهر أيلول، يتغير وجه الشاطئ ويتبدل، ليتعرى عن صخر وحصى صعبة المداس، بعدما كان ممشى رملي ناعم في أيام الصيف الماضية.


رياح الخريف التي ما زالت تعبث بأشجار النخيل المجاورة، تحيل كل شيء على الشاطئ إلى لون الكآبة والضجر، مظلات الشمس المائلة نحو الشرق، مقاعد المصطافين الخالية إلا من بعض كبار السن القلائل، الذين تأخروا بالمغادرة، يبعث وجودهم على القلق، مالذي أبقاهم حتى الأن؟ ربما كانوا ينتظرون أخر ساعات أيلول كي يغادروا، أو ربما نسيهم ذويهم هنا ومضوا إلى حياتهم، وربما لم يبق لهم سوى هذي الوقفات الأخيرة متمسكين بآخر رمق للشمس والتي يمكن أن تكون آخر شمس لهم، قبل ثبات الشتاء الطويل.
كل شيء يوحي بالضجر.. عيدان القصب المنخورة والرطبة على طرف الشاطئ مختلطة مع كل ما تقيأه البحر، صدف ميت وحصى ملساء سخيفة، غيم ثابت، خيام كانت منذ أيام قليلة حبلى بالفرح، هُجرت ولم يبق فيها سوى الصمت.

كل شيء يوحي بالضجر.. الوحيدون المبعثرون على مسافات بعيدة، والمتحاشين من الاقتراب بالأخرين القلائل، بعضهم يفكر في نهاياته، الأخرون قد يكونوا يبحثون عن بدايات، والقلة الذين يصطحبون أقران لهم، لا بد أنهم يشعرون بتلك المسافة فيما بينهم، فلأيلول غرام بالوحدة.
بعض العابرين يرسمون حروفاً لأسماء بعيدة، ربما كانوا أحبة، تبدوا عليهم ملامح الحزن والطيبة، وربما الفجيعة بعدما تمسح الأمواج ما خطوه، تتشابه الأمواج والقدر، وتتشابه إرادتنا مع ما نخط، كما يتشابه وجودنا بتلك الرمال التي تزيحها حصى الشتاء القاهرة، لنغدو قفراً بعد غنى وركاماً بعد منعة.
حركة أوراق الشجر اليابس والمصفر الذي تتلاعب به أمواج البحر في حركة بندولية يبدو عليها الأبدية، تغمر النفس بالاستكانة لحكم القدر وتعاقب أيلول بعد كل ربيع، كما تدفع المرء إلى الإقياء من اليأس، الأسماك الميتة المتفسخة، الممشى البحري الخاوي، أحذيةً لأطفال كانوا منذ وقت قريب يمرحون.. كلها توحي بالضجر.
رسائل الواتس أب والفيس بوك المشبعة بالكراهية، إيميلات مبهمة، تعاكس المواعيد المرسومة من زمن، مرار زائد في القهوة الصباحية، ولا سكر كاف في كاس الشاي المسائي.
الخمر بلا نديم، الخمر بلا روح.. سلام عبثي لحرب واجبة، والضحايا مغررون بالنعيم، والجنان للطغاة، والأرض لن يرثها الطيبون. 
إحدى أهم حجج القدر في وجود الموت هي إتاحة الخيار أمام الناس، واستبعاد سطوة العادة في الحياة، غادر قليلاً واترك حرية الاختيار بلا ضغوط وبلا سيوف الحياء، فلربما كنت ثقيلاً على القلب، أرح الروح قليلاً من ثقل المكوث، واترك الريح تلهو بمصيرك، ابتعد وغير عادات قلبك، تمرد على عبودية الاشتياق، وحرر فؤادك من الحب، إكره وشوه جمال ما بنيت، مزق لوحتك الأخيرة بعد اكتمالها، واترك الشغف بلا ميناء، تلاسن مع الحياة، أعد النظر ببياضك فقد يكون مزيف، اشرب الكأس واكسره، اخلف بالمواعيد، خن واغدر وعاقب بقسوة، واحذر من الحنين.. هذا ما يقوله لك الخريف.


في اللجوء الأخير يحمل أيلول لك الختام، لا حب يدوم ولا ثورة، لا فرح ولا أحزان، ولا شباب ولا مشيب، في اللجوء الأخير تخرج إليك عيون الأطفال المغبرة من تحت قدميك، تسائلك عن المصير، وعن النهاية، في كل رفة عين عاجل موجع، من صنّف العواجل للكوارث؟، قد تكون صُدف أيلول أبدية، وقد تكون الأبدية في أيلول، «لا تحلموا بعالم جديد»، فكلنا ذئاب بشكل حمل.
يهيؤ أيلول المنام ويلغي المواعيد، والكلام الجميل الذي كان يطرز حواف اللقاء تسطح، وغدا بلا معنى، ربما قتله الاعتياد، وشهوة التجديد، أيلول ألغى الأولويات وبدلها، وأعاد ترتيب الحياة على أساس الذات، والأنا بعدما ألغى مواعيد «هم».
على الصخور الناتئة عند البحر يستحيل المسير، ومشوار الشاطئ المهجور نوع من التعذيب، فلا ثورة انتصرت ولا رجع “الدم المسفوك يوماً”، كل ما يرجِّعه الصدى صوت أنين.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*