أبو عدنان صانع الموسيقى في زمن الحرب

زيتون – وسيم درويش 

في غرفه المزدحمة، والتي تروي في كل تفصيل يزينها، جملة من المفردات التي يصعب أن يفهم معناها إلا من لامست أصابعه أوتار العود، يعمل العازف «ساهر حج عيسى» أحد المتبقين القلائل من صنّاع الآلات الموسيقية الشرقية بالطرق التقليدية، معتمداً في صناعتها على الجهد اليدوي وبعض الأدوات البسيطة.

في بلدٍ دمرته الحرب، وأصبح تأمين الأكل والشرب فيه هم الناس الوحيد الذي يشغل جلّ وقتهم، كان لابد أن تتعرض مثل هذه الصناعات لانْتِكاساتٍ عدة، ربما تعرضها للانقراض في نهاية المطاف.

ورشة «ساهر حج عيسى» الملقب بأبي عدنان في مدينة معرتمصرين، تعتبر إحدى الورشات الوحيدة التي استمرت في صناعة العود داخل إدلب، رغم الانخفاض الكبير الذي يشهده الطلب على آلات العزف بشكلٍ عام في الوقت الراهن، وترى مدرسة اللغة الموسيقية «نهى الحسني» أن عزوف معظم الأهالي من كبارٍ وصغارٍ عن ممارسة مختلف أَنواع الرياضات أو الهوايات التي تندرج تحت مسمى الموسيقى، لأسباب متعدّدة، منها الفقر، الذي يعد من أهم أسباب الإحجام عن العديد من الأمور في ظل الغلاء المنتشر في سنوات الثورة، وأيضاً الغزو الفكري المتمثل في التوجه إلى المعارك للعديد من الأطفال، والنزوحُ الخارجيُ والداخلي، والقصف المكثف الذي تعرضتْ له محافظة إدلب، وما خلفه من مآسٍ لم يخلوا منها أي منزل إن صح التعميم، هي الأسباب التي أدت لتدني مستوى الاهتمام بالموسيقى والآلاتِ الموسيقية بنسبة تجاوزت الـ 60% عن عهدها السابق.

يستعرض «أبو عدنان» مراحل تطوُّر ورشته باكتساب الخبرة في صناعة العود الشرقي قائلاً: «نشأت وترعرعت في أسرةٍ فنية، لوالد من أهم الفنانين المعروفين في إدلب، وهو خريج دار المعلمين شعبة الموسيقى عام ١٩٦٠، تعلمت العزف على آلة العود منذ نعومة أظافري وكان والدي هو المعلم الوحيد الذي أستمد منه معلوماتي».
يستعيد أبو عدنان بعضاً من ذكرياته ويتابع: «كنت أجد صعوبة كبيرة في تلقي المعلومة في بعض الأحيان ولا زلت أذكر في إحدى المرات عندما حطمت أحد الأعواد التدريبية لأحبس بعدها في الحمَّام من قبل والدي لعدة ساعات».

ولم يتوقف أبو عدنان عند هذا الحد فحبه للموسيقى دفعه لاحتراف العزف على آلات عدة منها «الأكورديون»، وآلة القانون التي بدأ بإتقانها في نهاية المرحلة الإعدادية، وفيما بعد تخرج من معهد المراقبين الفنيين في حلب، ليلتحق بأحد المعاهد الموسيقية لدراسة اختصاص آلة القانون، ويضيف أبو عدنان: «بدأت تعليم العزف والتلحين للأطفال في بداية تسعينيات القرن الماضي، وفي عام ٢٠٠٢ تفرّغت بشكل نهائي كمدرّب فرق موسيقيـّة لمدارس المحافظة وشكّلت العديد من الفرق المتميّزة».

استمر أبو عدنان في نشاطه بتدريب الأطفال على مختلف أنواع الآلات ومن بينها العود، إلا أن حبه للموسيقى وكثرة الأعطال وقلة ورشات الصيانة التي نادرا ما وجدت دفعه لتعلم صناعة العود عام ٢٠٠٠، ويوضح أبو عدنان الصعوبات التي وقفت في طريقه قائلا:
«لم يكن اكتساب المهنة سهلا بالنسبة لي نظرا لعدم وجود ورشات في محافظة إدلب باستثناء ورشة «عبد الغني غفير» من مدينة ادلب التي أُغلقت منتصف التسعينيات، وورشة»عبد المعين سجّان» في مدينة معرة النعمان الذي أغلقها منذ سنوات عدة خلال الثورة ولم يكن في تلك الآونة ما يساعدني على التعلم كما هو اليوم، من خلال الإنترنت الذي لا بمكن أن يُخفي سراً لمهنة».

ووصف أبو عدنان أعواده بالمتميّزة والمرغوبة لأرقى المحلات والعازفين، وتابع: «تميّزتْ ورشتي وبرعتْ في إصلاح الأعواد القديمة التراثيّة، التي كانت تأتيني من دمشق وحلب ولبنان بشكل مستمر، إذ يعود تاريخ تصنيع بعضها لبدايات القرن العشرين وبعضها للعام 1873».

وأفاد أن من القواعد المتبعة في هذه الصناعة، هو عنصر الجودة والتقنية الحرفية في الصناعة لدى مُمْتَهِن هذه الصنعة، أي الاحتراف في انتقاء الأخشاب التي يمكن استعمالها في صناعة الأعواد الجيدة حيث تنتقى حسب كل قسم من العود، فبالنسبة للقفص تفضل الأخشاب القابلة للحني والتشكيل، كخشب الجوز والزان والسنديان والليمون والدلب والكينا والقرنفل والأكاجور والغار والحور، ومن الأخشاب النادرة والثمينة، الأبانوس والسيسم والورد والصاج هندي، أما بالنسبة للوجه فيفضل خشب الشوح وبعض أنواع السوًيد، ومن الأخشاب النادرة والثمينة الأرز (السيدر).

تأمين مستلزمات الحرفة سواء المواد الأوّليّة أو حتّى المعدّات ولوازمها أمرُ في غاية الصعوبة كما يوضح أبو عدنان، وذلك على اعتبار أن الذين يعملون في هذه المهنة هم قلة نادرة وحتى المعدات قد يضطر لتصنيعها يدويا لعدم توفر مثيلاتها في الأسواق، وبالتالي يتم استيراد القطع من مناطق النظام أو الدول المجاورة.

وشدد الحج عيسى على ضرورة الحفاظ على هذه المهنة الحرفية لما تمثله من فلكلور شعبي ومخزون تراثي، ونظرا للدور الرئيسي الذي يحتله العود في إنتاج الموسيقى على الرغم من التعدد الكبير في أنواع الآلات الموسيقية الإلكترونية، وأكد على ضرورة السعي لنشر الفكر الثقافي الذي قد يفضي الى إيجاد آليات ملائمة لتدريس هذه المهنة وتوريثها للأجيال القادمة بشكها الصحيح حرصا على عدم انقراضها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*