أجل لقد عدت يا أمي

زيتون – محمد بتش مسعود
لازلتُ أذكرُ ذلك اليوم البارد، كانت نار المدفأة تقاتل الخشب، ذرّات الرّماد الهالك تنساب عبر شقوق المدخنة، تناثرت لويحات الباب بوابل من الرّكلات، انهض يا ابن……، اقتادوني مقيـّداً منزوع الهوية.
داخل غرفة بائسة تفوح منها رائحة الموت، دخل أحدهم يحمل مطرقة وبعض المسامير، كان يدندنُ مزمجرًا: “هويـّتك وعملك؟”، “عربي مسلم”، وإذ بجزمته السوداء المتـّسخة تقتلع ما بقي لي من أسنان، تطاير الدم على وجهي، ضحكَ بسخرية، بصقَ، تنخـّم، يناديه أحدهم، فيغادر كخنزير شارد.
كاد الحزن أن يقتلع كياني عندما قدّم لي أحدهم صحناً نتناً غارقاً بالصدأ، تسبح فيه حبة عدس، “إيــه!، حتى الصحون لم تسلم منهم”.
أحسستُ ببعض الحرارة، فتحتُ عيني بصعوبة كبيرة، وبعد زمن أدركت ُأنني في غرفة مشفى، “لقد نزف بشدة”، سمعت إحداهن تقول: “لحسن حظـّه لم يمت”.
زنزانتي الضيقة غارقة في الظلام، أسمعُ صراخ المساجين وزفراتهم، كان الأنين يملأ أذني طوال الليل، “الله أكبر”، “لقد مات”، صرخ أحدهم مناديـّا الحرّاس، “إيـه!، كلّ لحظة تمر ينبت شهيد”.
مر شهران يا وطني، تذكــّرت شجرة الزّيتون، تذكـّرت ُأهلي وزوجتي الحامل، كان المطر المنهمر بشدّة يغسلُ الأفق، أخرجني اثنان، قاداني، كنتُ أُكبـّر، “سأموت اليوم”، وصلنا إلى البوابة، قال أحدهم: “أنت بريء”، “أنت حر”!.
بكيتُ في الطريق، كنتُ أبكي بحرقة، “إيـه!، الكلاب..، أنت بريء”.
التفَّ حولي جمعٌ من الصغار وبعض النسوة، عدتُ إلى البيت وما معى هدية، قالت أمي: “مرّ وقت طويل، طويل ياولدي، لكنـّك عدت”.
عندما نظرت إلى المرآة المعلـّقة على الحائط، كانت آخر شعيرات لي قد ابيضّت، تعالى الصراخ، قال أحد الجنود: “سترافقنا لبعض الوقت، سنطرح عليك بعض الأسئلة فقط”، ابتسمتُ، تمتمتُ: “أجل لقد عدت ُيا أمي!”.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*