إياد الجرود.. الناس وحدهم يروون أحداث الثورة السوريّة

349

مشاهد كثيرة ما زالت تُحاصره. يذكر المعارك والحواجز وأصوات الرصاص والقذائف والطائرات وغيرها. يذكر أيضاً التظاهرات والهتافات والأعلام التي صنعها مع الثوار. لا يغيب عن باله وجه أمه في كل مرة كان يخرج فيها من البيت أو يعود إليه. ولا ينسى وجوه الذين صرخوا بصدق بهدف إنجاح الثورة، وجميع اللحظات التي وثقها بعدسته.
كثيرة صور الشهداء في رأسه. يحفظ وجوههم جيداً. كان يرافقهم من لحظة استشهادهم حتى اختفائهم تحت التراب. عندما بدأت الثورة، كان إياد الجرود مدرساً لمادة الرياضيات في ثانوية “سرمين” للفتيات. يقول لـ “العربي الجديد”: “كان آخر درس لي في الشهر الثاني للثورة، وقد انتهى باتصال من أحد أصدقائي ينذرني بخروج عدد من سيارات الأمن من مركز محافظة إدلب باتجاه مدينة سرمين، وقد نصحني بالمغادرة”. يضيف: “في ذلك الوقت، لم أشعر بخطر يتهددني.. لكنّه الحذر”.

خرج الجرود من دون وداع تلميذاته. يقول: “انتظرتني دراجة نارية على باب المدرسة، وأقلتني إلى مدينتي سراقب الواقعة في الريف الشرقي لمحافظة ادلب”. يضيف أن انضمامه إلى الثورة يرتبط بذاكرته المليئة بالصور والمشاهدات، وتبدأ من صورة حافظ الأسد ومن بعده بشار الأسد، المعلّقة في الصف والشارع والحارات والمطاعم وواجهات المحال وغيرها. كان يكره مراقبته له في كل لحظة، إذ كانت صورته ملتقطة بشكل يجعل منه قادراً على النظر في جميع الاتجاهات. “كان ينتهك خصوصيتي بشكل وقح”، يعلّق.
يتابع الجرود: “لم أكن معارضاً بالفطرة، ولا أنتمي إلى عائلة ذات تاريخ سياسي معارض. لكن من الفطرة لأي شخص لديه قيم ومبادئ، أن يكون معارضاً لكل ما يقيد حريته”. يضيف: “لم أؤمن بنداء الإصلاح الأول، لكنني شعرت بنشوة الثورة مع أول صوت هتف الشعب يريد إسقاط النظام”.

وعن عمله في مجال التصوير والإخراج، يقول: “في بداية الثورة، كان علينا القيام ببعض الأعمال، من ضمنها توثيق اللحظات والصرخات التي كانت وكنا جزءاً منها”. يضيف: “بعد مرور بعض الوقت، ومحاولة خلق شكل أكثر تنظيماً للثورة، وجدت نفسي في الصور التي تحمل حقيقتنا وصوتنا وأصوات من كانوا معنا وغابوا”. كان شغوفاً بتوثيق اللحظة. يقول إنها محاولة للاحتفاظ بذاكرة صادقة ستكون جزءاً من تاريخ يحكي عن مرحلة مهمة، مشيراً إلى أنها “منقولة بأمانة، بكل تفاصيلها وإنجازاتها وإخفاقاتها”.

بعد خروجه من سورية إلى تركيا، صار الأمر أكثر صعوبة بالنسبة إليه، علماً أنه كان قد فقد مجموعة كبيرة من أعماله خلال أحد اقتحامات الجيش النظامي للمدينة. يتابع: “شعرت أنني سأكون في وسط لم أعتد عليه ولن أعتاد عليه. ويجب أن أخوض غماره بحذر”.
للجرود تجارب مصورة عدة. إلا أن فيلم دفاتر العشاق – حيطان سراقب، كان الأطول الذي يرى النور، وقد استغرق إنتاجه نحو عام. يسلّط الضوء على مشاهد وقصص من الثورة السورية وتحوّﻻتها، من خلال ما ترويه (حيطان) بلدة سراقب في ريف إدلب، كنموذج عن المدن السورية المحررة، والتي كانت الكتابة فيها على الجدران بمثابة مقاومة سلمية. يضيف: “يرصد الفيلم الذي امتدت فترة تصويره لنحو ثلاثة أعوام من الثورة، جميع التطورات والأحداث المفصلية التي مرت بها المنطقة من خلال الناس”.

يوضح الجرود أنه حاول من خلال الفيلم تقديم صورة أكثر واقعية وبعيدة عن التصنع أو التجميل، من خلال التركيز على الأحاديث والنقاشات في بناء الفيلم. كان هذا الوثائقي السوري الوحيد الذي شارك في مهرجان “روتردام” السينمائي الدولي في هولندا، كما عرض في سينما قصر الأمم المتحدة في جنيف، بدعوة من مركز الكتاب العرب، وفي مدينة لوزان في سويسرا ضمن نفس السياق، بالإضافة إلى عرضٍ في النادي السينمائي السوري في باريس، وآخر في لندن، وفي مدينة عينتاب التركية.

تجدر الإشارة إلى أن الجرود لم يدرس الإخراج ولا يعرّف عن نفسه كمخرج، لافتاً إلى أن الإخراج “ليس هدفاً بقدر ما هو وسيلة لإيصال رسالتنا الإنسانية ورسائل ثورتنا ومجتمعنا”.
بالإضافة إلى الأفلام، يهتم الجرود بالتصوير الفوتوغرافي منذ بداية الثورة. لم يكن الأمر عملاً بالنسبة إليه بقدر ما كان “رحلة بحث عن الذات والتكوين، نخلق فيها الصور كي تخلقنا”.
كما شارك في معرض خيري للصور بعنوان “عيون وحكايا”، عاد ريعه لإحدى دور الأيتام. يقول: “أتمنى كسر العلاقة بين الصحافة والأماكن التي تعاني من وضع انساني مشابه لما يحصل في سورية، حيث يكون الأطفال عرضة لكاميرات كثيرة”.
ابتعد عن تصوير الأطفال بالشكل المعتاد، بل أراد إظهار الأمل في عيونهم، ما يدعو الناظر إليها للابتسام لا الشفقة. يختم حديثه قائلاً: “على الرغم من التجارب الفنية المميزة، ما زال هناك تقصير كبير. الواقع أكبر مما استطعنا تقديمه”.

العربي الجديد – سما الرحبي