الإنصات لهم.. خير علاج لأطفالنا المصدومين

مجموعة من أطفال بلدة حاس الذين شهدوا مجزرة مدرسة حاس بريف إدلب الجنوبي – زيتون

زيتون – عدنان صايغ 

على ظهور الشاحنات المحملة بالأمتعة والمتجهة إلى مخيمات النزوح، يجلس الأطفال الهاربين مع ذويهم يستشرفون قادمهم فلا يرون سوى الخيام والضياع، في حاضر من ركام، بعدما سحقت نيران الطائرات والحرب حياتهم.

في واقع يعج بأسباب يكفي أحدها ليخلّف صدمة عنيفة للبالغين، يتلقى الصغار صدمات متتالية تراكم مشاكل نفسية ليس من السهل الشفاء منها.

تُعرّف الصدمة النفسية بأنها “أعراض ما بعد تجربة صادمة أو حدث عنيف ومؤذ يهدد الحياة، ينتج عنها خوف شديد أو إحساس بالعجز”، تحتاج هذه الحوادث إلى مجهود غير عادي لمواجهتها، كما يعرفها أخرون بأنها “حالة فجائية طارئة غير متوقعة، تكون فوق طاقة الإنسان، تؤثر عليه، بحيث يكون عاجزا عن التأقلم مع الواقع”.

تقول المربّية في إحدى رياض الأطفال بجسر الشغور بريف إدلب الغربي “أماني المحمد”: “يلعب الأطفال بشكل دائم لعبة الجيش الحرّ والشبيحة، ويمثلون الاقتحامات، ويحفظون أسماء كل أنواع الأسلحة، كما ترتفع نسبة المنعزلين والمنطوين بالإضافة إلى مظاهر الخوف لدى الجميع حتى لدى الكبار، لكن يبقى الطفل مرآة للخلل الذي أصاب المجتمع”.

في حالة غير مفهومة يبكي أحمد ذو الست سنوات ويختبئ خلف أمه صائحا “سيعتقلوني” كلما رأى رجلا يرتدي زيا عسكريا أو يحمل سلاحاً، فيما  بدأت تظهر على أخته بتول التي تكبره بثلاث سنوات بوادر لمرض جلدي، وتؤكد أمهما لزيتون على أن ما أصاب ولديها بدأ منذ أن علما بوفاة والدهما في السجن.

“لؤي محمد الأعرج” طالب كان في الصف الخامس الابتدائي بمدرسة قرية حاس التي لا يتجاوز عدد سكانها 15 ألفا، وأحد الناجين من المجزرة التي وقعت في مدرسته وراح ضحيتها 45 معظمهم من الطلاب قال لـ «زيتون»: “لا تزال أصوات الانفجارات تدوّي في رأسي، ومشاهد الدمار والدماء، تدافع الطلاب، وهروب بعضهم، واختباء البعض الآخر تحت مقاعد الدراسة التي امتلأت لاحقاً بالدماء لا تفارق مخيلتي، وكأنها تتكرّر في كل لحظة، فقدت أصدقائي وأساتذتي، لن أعود للمدرسة مرة أخرى”.

طفلة من ريف مدينة كفرنبل بريف إدلب – زيتون

تنتشر ظاهرة الخوف المبالغ فيه لدى جميع سكان الشمال السوري وبشكل خاص لدى الأطفال من الأصوات المرتفعة ولا سيما تلك التي تشابه صوت انقضاض الطائرات، يرافقهم ذلك الخوف حتى بعد خروجهم من سوريا ليعيش معهم في دول اللجوء.

يلخص الأخصائي في العلاج والصحة النفسية الدكتور «خالد الضعيف» لزيتون بعض أعراض الصدمة بالخوف والقلق، وهما من أهم العوارض التي تظهر على الطفل، والخوف قد يدفع إلى اليقظة الزائدة التي تسبب صعوبة في التركيز وصعوبة في النوم، وهو ما يسبب عصبية وتدني قدرة الطفل على التعلم.

كذلك تظهر حالة من الإنكار على بعض الأطفال الذين يميلون الى إنكار الواقع كأن يؤكد طفل فقد زميله على عودته غدا إلى المدرسة، كبعض الحالات التي ظهرت بين أطفال قرية حاس بعد المجزرة التي وقعت لرفاقهم في المدرسة والتي رصدتها زيتون سابقا.

“راما” إحدى الأطفال الناجيين من مجزرة مدرسة حاس تحدثت عن أصوات البكاء والصراخ التي عمت المدرسة، وكيف تذكرت ابن عمتها أحمد في الصف الأول، وصار همها إخراجه من المدرسة، وحين وجدته يبكي أخذته وركضت به، تذكر راما بأن أحمد كان يبكي ويقول: “يا رب لا تموّتني، أنا ابن شهيد، أنا وحيد لأمي، أنقذني من أجلها”، كما تذكر كيف كادت أن تتعثر بيد طفل يمسك حقيبته المدرسية في الطريق”.

يد لطفل من قرية حاس أحد ضحايا المجزرة – انترنت

أهم الاضطرابات النفسية شيوعا لدى الأطفال السوريين هي “اضطراب الرض ما بعد الصدمة واضطراب القلق العام والتبول اللاإرادي”، من عوارضها زيادة التعلق بالأبوين على نحو ملحوظ وحديث العهد هو دليل صدمة قلق لدى الطفل، منها أيضا قضم الأظافر ورؤية الكوابيس، وضعف التركيز والخوف غير مبرر، إضافة الى العنف الناتج عن الخوف وفقدان الثقة بالحياة وتراجع القدرة على التفكير المنطقي، إضافة إلى الانزواء والانطواء والميل إلى الوحدة بحسب الطبيب النفسي “مضر حبار”.

وكانت جامعة ألمانية قد أجرت دراسة نشرها DW شملت 100 طفل سوري لاجئ في ألمانيا عام 2015، أكدت أن طفل من كل خمسة أطفال سوريين يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، و30% منهم يحاول مقاومة مشاكل عقلية خطيرة، مشيرة إلى أن 60 في المائة من الأطفال من مشاعر العزلة بعد وصولهم إلى ألمانيا.

محاذير تزيد من عمق الصدمة

يحذر الطبيب مضر حبار من رؤية الطفل لأحد والديه أو كليهما في حالة خوف فهو يفتقد بذلك الملجأ الآمن والطبيعي الذي تعود عليه لحمايته وقت الشدة ويجب أن يعلم الآباء أنهم القدوة بالنسبة لأبنائهم ويفترض بهم أن يسيطروا على مشاعر القلق والخوف أمامهم وان يبثوا روح الأمل والشجاعة فيهم، كما يشدد على الأبوين في عدم التحدث أمام الطفل عن الحوادث المؤلمة التي تعرضت لها الأسرة في ظروف الحرب الحالية وعدم معاقبة الطفل جسديا في حالة التبول اللاإرادي.

ويرى الطبيب حبار بان الإطار العام لكل الحالات يقضي بتأمين الأساسيات للأطفال وأهمها الأمان ومن ثم المعيشة من توفير الطعام واللباس والدفء، كذلك التعليم.

وفي دراسة لمنظمة أنقذوا الأطفال جاء فيها أن ملايين الأطفال السوريين يقومون بجرح أنفسهم أو تناول المخدرات للتخلص من الإرهاب الذي تسببه الحرب.

كيف نساعدهم

ينصح الطبيب خالد الضعيف التركيز على التعامل مع الطفل بطريقة غير لفظية، نتيجة لانخفاض قدرتهم على التعبير فهو لا يعرف كيف يعبر عن آلامه وما يعانيه بصورة كلمات أو ألفاظ لغوية.

ويضيف الطبيب “حبار” نصائح أخرى يمكن للأهل القيام بها أثناء تعاملهم مع أطفالهم المعرضين للصدمات بالآتي:

 علينا أن نستمع لأطفالنا، الاستماع الجيد للأطفال وكلما كرر الطفل الحديث عن الصدمة من خلال التفريغ الانفعالي كلما قل تأثيرها عليه في المستقبل، والتحدث مع الطفل بطريقة تدخل الطمأنينة والأمان إلى قلبه واستخدام أي إجراء يعزز ذلك، ومن المهم محادثتهم قبل النوم عن أفكار ايجابية وعن طموحاتهم وأمالهم والإيحاء لهم بأن المستقبل أفضل، مبتعدين عن ذكر أسباب الصدمة.

كما يجب على الأهالي تقليل تعرض الأطفال الى الإعلام، وخاصة الإعلام الذي تظهر فيه مشاهد العنف والقصف، لأن الطفل يستعيد بذاكرته الصدمة، ويعتبر “الضعيف” أن سهولة الوصول لوسائل الإعلام ومقاطع الفيديو عن طريق الإنترنت التي تغذي العنف لدى الأطفال أو تثير الرعب لديهم من المشاكل التي لا يتنبه لها الأهل ويقول:

“للأسف الآباء يتصفحون المواقع الالكترونية ونشرات الأخبار غير مبالين بشعور أطفالهم أو غير مدركين بتأثيرها عليهم، وحتى العاب الأطفال الالكترونية فكلها تحاكي الحروب والقتل والعنف”.

وتفيد مشاركة الأطفال بتنفيذ بعض الأنشطة البسيطة كأن يشاركوا أهاليهم بالعمل أو مرافقتهم لذويهم للتسوق، وتمكين الطفل من ممارسة حياته الطبيعية قدر الإمكان، وزيادة الاهتمام بفعاليات كانت في السابق أمرا “روتينيا” مثل الاحتفال بعيد ميلاد الطفل والخروج في نزهات.

لكن يبقى الشرط الرئيسي للبدء في أي علاج هو توقف أسباب الصدمة أو الحدث الصادم، وهو ما تفتقده الحالة السورية التي تستمر فيها الاضطرابات حتى اليوم.

تم إنتاج هذه المادة بدعم من منظمة FPU

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*