البائع المتجول.. الشهيد محمد إسماعيل الخاني

بقامته المتوسطة وسمرته الجذّابة وطيبته وبساطته، كان يتجوّل في شوارع قريته معرشورين والقرى والبلدات المحيطة بها، حاملاً بضاعته ومسؤولية تأمين لقمة عيش عائلته، إذ ترك “محمد إسماعيل الخاني” مواليد عام 1978 تعليمه منذ صغره، نتيجة ظروف عائلته المادية الصعبة، ليدخل سوق العمل مبكراً كبائع متجول، ويبقى في مهنته تلك حتى اعتقاله.

كان “محمد” إنساناً بسيطاً ومحبوباً من قبل الجميع، وذلك لأمانته، ورفضه للغش أو الخداع، ومراعاته لأحوال الناس المادية بالرغم من بساطة حالته هو الآخر.

اعتقل محمد على أحد حواجز الجيش في قرية “الزعلانة” القرية الصغيرة القريبة من بلدته، وذلك في شباط عام 2012، أبلغنا سائق السيارة التي كان يستقلها محمد أنَّ الحاجز اعتقله، توقف الرجل السبعيني “إسماعيل الخاني”، الذي خطت حكايات الظلم والقهر والفقر حروفها تجاعيد على وجهه الذي كانت قد غطته دموع حزن على ولده محمد وإخوته الثلاثة، الذين غيبتهم السجون أو غارات الطائرات الروسية.

“بعد اعتقال محمد نقل إلى المركز الثقافي في معرة النعمان، إذ كان النظام قد اتخذه في تلك الفترة نقطة عسكرية، يجمع فيه الشباب المعتقلين قبل نقلهم إلى السجون الرسمية، وتنقل محمد بعدها بين عدة فروع أمنية وسجون، بدءاً من سجن الرقة وانتهاءً بالفرع 215 بدمشق الذي استشهد فيه بحسب ما أظهرت صور قيصر”، وأضاف أخو الشهيد محمد الذي تدارك بكاء والده ليكمل عنه الحديث:

“كان زملاء محمد في السجون، يتواصلون معنا خلال السنة الأولى من اعتقاله، ويخبروننا عن التعذيب الذي يتعرض له، ولكن أخباره انقطعت بعدها بشكل كامل، ولم نعد نعرف أين هو أو ماذا حل به، وكانت آخر معلومة لدينا أنه في سجن الرقة، لنفاجأ بعد تسرب صور قيصر، وفي تموز عام 2016 بالتحديد، أن صورته بين الشهداء الذين سقطوا تحت التعذيب في الفرع 215”.

تابعت خالة الشهيد الحديث عن ابن أختها قائلة: “كانت تردنا أخبار عن سوء حالته الصحية في السجن، وإصابته بمرض السل، وكنا نقف عاجزين، غير قادرين على تقديم أية مساعدة له”

وبعد تنهيدة طويلة: “ربما كان موته أرحم مما كان يلاقيه في السجن”.

أحد الناجين من سجون النظام أخبرنا أن محمد كان يتعرض للتعذيب بوحشية، ويمضي ساعات طويلة في التحقيق، ليعيده السجانون بعدها ويرموه على أرض الزنزانة كخرقة بالية، يحاول زملاؤه تقديم ما يستطيعون من المساعدة له حتى يستعيد وعيه، قالها والد محمد وصمت.

العائلة والنشاط

يقول أخو الشهيد محمد: “كان محمد إنساناً بسيطاً جداً، لا يشغل باله سوى تأمين لقمة الخبز لأولاده الأربعة، حتى إنه لم يشارك في المظاهرات على عكسنا نحن باقي إخوته، ورغم ذلك اعتُقل وعُذّب حتى الموت”.

وأضافت خالته: “كان كل همه تربية أولاده، وكان شديد الخوف عليهم، وها هو ذا قد تركهم مكسورين في غيابه، مشتاقين لحضوره بينهم، في كل مناسبة يفتقدون وجوده، ويتحدثون عنه، أما زوجته فهي دائمة الحزن منذ لحظة اعتقاله، وبعد استشهاده فقدت الرغبة بالحياة”.

الشهيد مصعب الخاني.. الأخ الأصغر والشهيد الأول

لم يكن محمد وحده من استشهد في عائلة إسماعيل الخاني، إذ كان أخوه الأصغر مصعب ذو الثلاثين عاماً، وهو أب لثلاثة أطفال، وعضو تنسيقية قريته، وأول المشاركين في المظاهرات والداعين لها، كما كان الإعلامي الذي يصورها، استشهد قبل محمد، وتعرض للتعذيب الشديد حتى الموت، ولكنه لم يصمد بين أيدي عناصر الإجرام لأكثر من 3 ساعات، كان ذلك في الشهر نفسه الذي اعتقل فيه محمد.

في شباط عام 2012، كان مصعب مع أحد رفاقه يسيران في القرية، وكان هناك حاجز للنظام ضمن القرية، فأطلق النار عليهما وأصيب صديقه، وظن الجيش أنه مات فتركوه، واعتقلوا مصعباً ليصحبوه إلى قرية خان السبل.

بدأ شباب القرية بالبحث عنه مباشرة لعلهم يستطيعون الوصول إليه وتحريره، ولكن للأسف وجدوا جثته بعد ثلاث ساعات فقط من اعتقاله، مرمية على الطريق العام بين قريته والقرية المجاورة، وكانت آثار التعذيب واضحة على مصعب، وقد تم تعذيبه حتى الموت.

ربما كان استشهاد مصعب بهذه السرعة، ورؤية والده له بهذا المنظر، وخبرته لمدى إجرام النظام وعناصره، عبر ما شاهده من آثار التعذيب على جسده، هو ما زاده خوفاً على محمد، وإصراراً على استنفاذ كل الفرص المتاحة وغير المتاحة لإنقاذ ابنه الثاني من براثن النظام، ولا سيما أن الوقت لم يسعفه لإنقاذ ابنه الأول، ولم تكن إلا بضع ساعات ليعود إليه جسداً معذباً ومشوهاً بلا روح.

يقول الوالد: “بالرغم من أنني بسيط الحال، ولا أملك ثروة، إلا أنني بذلت جهدي لأنقذه، ولجأت إلى أحد المحامين للكشف عن مصيره، ولكنه لم يصل إلى نتيجة، واتبعت سبلاً كثيرة، ووعدني بعضهم بالمساعدة، غير أنها كانت حالات نصب واحتيال، وكنت راضياً بأي مبلغ أو خسارة مادية لو أن أحدهم تمكن من الوصول إلى محمد أو إنقاذه من الموت.. حرق قلبي محمد كم لاقى من ويلات وألم حتى مات بين أيديهم”.

أحنى والد محمد رأسه باكياً عاجزاً، فبعد هذه الكلمة وتلك الدموع لم يبق ما يقال.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*