الثورة السورية.. شرارة التغيير تدخل عامها العاشر محملة بالآلام والآمال

أتمت الثورة السورية، العام التاسع لانطلاقتها، مع بداية تاريخ 15 من آذار 2020.

ورغم اختلاف البعض عن تاريخها، ومكان انطلاقها، إلا أن الأهمية تكمن في كيفية حدوثها، وسلميتها رغم الضغوط الأمنية والقمع المافيوي لسلطات الأسد بمختلف أنواعها.

ففي الأشهر الأولى لاندلاع الثورة، كان نظام الأسد في حالة إنكار من جهة وحالة قمع واعتقال وتنكيلٍ من جهة أخرى.

فلا هو يقبلُ إعلاميّاً بخروج أيّ مدينة عن سطوته، ولا هو يترك أي مدينة تسلم من بطش سلطته، وكل ذلك حدث في وقت يراقب فيه السوريون ثورات الربيع العربي وهي تنتقل من بلد إلى آخر وتحقق مكاسب كبيرة على حساب الأنظمة المستبدة.

فبعد أن خطّ صبية درعا على الحيطان عبارات تعلّموها من جيرانهم الذين عاشوا ربيع العرب؛ وكتبوا: “الشعب يريد إسقاط النظام”، ردت القوى الأمنية باعتقال الأطفال وتعذيبهم، ورفضت الإفراج عنهم.

وعندما جاء أهالي الأطفال يطالبون بالإفراج عنهم، قال الأمن لهم: “لوكنتم تريدون أطفالكم، أحضروا نساءكم لنستضيفهم عندنا بدلًا منهم أو نقوم باغتصابهم لإنجاب أطفال آخرين عوضاً عنهم”.

وسرعان ما انتشرت دعوات غاضبة، للخروج بتظاهرات في كافة أرجاء المدن السورية، وبالفعل لبى بعض السوريين النداء في يوم الثلاثاء الخامس عشر من آذار 2011.

في ذلك الوقت، خرجت مظاهرات صغيرة في دمشق وحلب ودرعا ودير الزور، وهتف المتظاهرون: “وينك يا سوري وينك؟”، واقتبسوا من إخوانهم الذين سبقوهم في مصر الهتافَ الأشهر: “سلميّة، سلمية”.

في اليوم التالي تظاهر نحو مئتَي شاب وفتاة في وسط دمشق واعتصموا أمام وزارة الداخلية مطالبين بالحرية وبإجراء إصلاحات سياسية والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وانتهت المظاهرة الصغيرة حينما هاجمها المئات من عناصر الأمن فضربوا المشاركين بالهراوات واعتقلوا عدداً منهم، وساقوا البنات إلى حافلات الاعتقال.

وفي يوم الجمعة الثامن عشر من آذار، خرجت مظاهرات في عدة مدن سورية، وكانت أكبرها تلك التي خرجت في درعا.

كانت درعا وكأنها فوق بركان تغلي حِمَمُه ويشرف على الانفجار، كان الغضب قد بلغ غايته بعد اعتقال الأطفال وبعدما كان من مسؤول الأمن السياسي ما كان.

ارتقت أول كوكبة من الشهداء في درعا يوم الجمعة الثامن عشر من آذار ولحقتها قوافل أخرى من الضحايا وشهد يوم الإثنين في الثامن عشر من نيسان واحدة من أضخم مجازر الثورة وأكثرها ترويعاً، حينما هاجمت قوات النظام والشبيحة بالرشاشات الثقيلة اعتصاماً في ساحة الساعة في حمص ضَمّ عشرات الآلاف من المتظاهرين.

في الخامس والعشرين من آذار، وفي ذكرى جلاء المستعمر الفرنسي -في السابع عشر من نيسان- خرجت في اللاذقية مظاهرةٌ قدرت بعشرات الآلاف، ففتحت عليهم قوات النظام المتواجدة في المدينة النارَ الحي فأوقعت شهداء وجرحى.

تكررت المجازر وحملات الاعتقال مع اشتداد وتيرة المظاهرات وبلوغها حداً لم يستطع النظام أن يوقفه، لقد كان ذلك التصعيد هو المحاولة اليائسة الأخيرة التي بذلها النظام لإجهاض الثورة بالقمع والترويع.

لعله ظن أن انتشار أخبار القتل سيردع الناس ويُلزمهم البيوت، وبالعكس؛ لقد أثارهم وأخرج منهم إلى الشوارع أضعافاً مضاعفة، وكانت “جمعة الغضب” جمعة استثنائية فاقت كل ما سبقها في حجم المظاهرات وانتشارها في جميع أنحاء سوريا، خاصة في ساحة العاصي بحماة.

لقد عجزت أجهزة الأمن المرعبة عن إيقاف الجماهير الغاضبة، عندها قرر النظام إخراج قواته من الثكنات وتوجيهها إلى المدن الثائرة.

أراد النظام أن يئد الثورة في مهدها فهاجم درعا واحتلها بالدبابات؛ لم يعلم أن الثورة التي اشتعلت في حوران لن تحصرَها حدودُ حوران، وأنّى لها أن تفعل؟ لقد انتقلت الشرارة سريعاً من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، فلم تُبقِ في طريقها أرضاً إلا أشعلتها ناراً ضِراماً.

لقد عجزت درعا عن الاستمرار في قيادة الثورة لأنها سقطت تحت الاحتلال المباشر حينما اجتاحتها مئات الدبابات وأحالتها إلى معتقَل كبير، فاستنسخ الشعبُ الأبيّ مئات الرايات ونَثَرها على أرض سوريا طولاً وعرضاً.

أصبحت كل بقعة فيها حصناً للثورة وعاصمة لها، واستقرت الراية الكبرى في حمص فتحولت إلى عاصمة العواصم، فهي التي ستحمل العبء الأعظم وفيها سيسقط العدد الأكبر من الشهداء منذ تلك اللحظة.

لقد عجز النظام عن قمع الثورة التي اندلعت في خمس مدن قبل سنة، وكان المشاركون فيها يُعَدّون بالآلاف، فأنّى له أن ينجح في قمعها اليوم وقد تمددت وانتشرت حتى بلغت ألفَ مدينة وقرية وصار المشاركون فيها بالملايين؟

بدأ الجيش بحصار المدن واقتحامها منذ الأسبوع السادس للثورة، وكانت تلك هي ورقة النظام الأخيرة، فهل نجح في استعمالها؟

ثمانية أعوام انقضت منذ اليوم الذي توجهت فيه الفرق العسكرية إلى المدن الثائرة، فحاصرت مظاهراتها واعتقلت أفرادها ونكلت بنسائها وأطفالها.

لقد سمعتم عن أنظمة قاومت الثورات بخراطيم المياه، وسمعتم عن أنظمة قاومت المظاهرات بالقنابل المسيلة للدموع، وسمعتم عن أنظمة قاومت المظاهرات بالرصاص المطاطي، وسمعتم عن أنظمة قاومت المظاهرات بالرصاص الحي.

لكن يبدو أنها كانت أول مرة سمعتم فيها عن أنظمة فتحت على الجموع المسالمة نيران الرشاشات بالجملة، واستهدف قنّاصوها الأطفال والنساء بشكل مقصود، وحرّمت إسعاف الجرحى، فاقتحمت المستشفيات واعتقلت الممرضين والمسعفين والأطباء واستعملت سيارات الإسعاف في الاعتقال، وقتلت الجرحى أو تركتهم على قوارع الطرق ينزفون حتى الموت.

قد تكون أول مرة سمعتم بها عن أنظمة تلاحق المتظاهرين في بيوتهم، فمن وجدوه اعتقلوه وعذبوه أو قتلوه، ومن لم يجدوه اعتقلوا أباه أو أخاه، وربما اعتقلوا الزوجة والأبناء والبنات.

ولكن رغم ذلك بقيت المظاهرات قائمة وظلت حتى في أضيق المناطق وأكثرها خطورة على سطح الأرض، لم تقتصر ضد النظام وحلفاءه فحسب، بل شكلت وسيلة للاحتجاج على أي ظلم يقع من أي طرف كان، حتى وإن كان فصيلاً مسلحاً يدعي نصر الثورة.

لم تمنع المسافات المترامية بين القرى والبلدات الثائرة، واختلاف الفصائل المسيطرة عليها بعد اتجاه الثورة نحو العسكرة، من الالتزام بآلية واحدة لاختيار اسم الجمعة القادمة.

وبالرغم من بعض الخلافات التي كانت تدور في أوساط الناشطين الثوريين حول اعتماد اسم جديد، وخروج بعض التنسيقيات عن الإجماع العام على التسمية في بعض الحالات، إلّا أن التصويت الذي انحصر وقتها بصفحة الثورة السورية، كان الفيصل في الاختيار بين مسميات عديدة تُقترح من قبل الناشطين.

وبالرغم من تعدد أسماء الجمع واختلاف الرايات والأهداف أحياناً إلا أن كثيرين يرون أنه لا ضير من اعتماد أكثر من اسم للمظاهرات فـ «التسمية ليست مهمة بقدر أهمية عودة الحراك السلمي».

ويأمل سوريون كُثُر بتوحيد الجهود ليعيد الثورة إلى سيرتها الأولى، ويحقق ما يصبو إليه المتظاهرون في إيصال صوتهم والتعبير عن مطالبهم.

انخفضت وتيرة المظاهرات جراء القصف وعدم الاستجابة للمطالب الشعبية، ولكن بقيت مناطق عدة تصدح بشعارات الثورة ومطالب الحرية والكرامة، وآخرها في درعا والسويداء رغم سيطرة نظام الأسد وحلفاءه عليهما.

الفائدة الكبرى من عودة الحراك الشعبي والتظاهرات المناهِضة للنظام إلى الشوارع السورية حسبما يرى سوريون يعيد توحيدهم خلف شعار واحد متمثل بمطلب الحرية والحياة الكريمة.

مظاهرات لاتزال تخرج في جمعة تلو الأخرى قد يرى البعض أن لا تأثير دولي لها، وذهب آخرين إلى انتقادها متذرعين بأن السلاح وحده من يحسم جولات القتال.

لكن مهما تعددت الآراء تبقى تلك التظاهرات والتحركات السلمية تمثل عاملاً جامعاً لأصوات السوريين المدنيين، الأمر الذي عجزت عن تطبيقه كافة التشكيلات العسكرية التي لم تنجح في تجاوز العقبات التحزبية طيلة السنوات الماضية، وبقيت أسيرة مشاريعها الخاصة.

عودة السوريين للاعتماد على سلاحهم الأول “الحناجر”، قد تكون هي الأمل الوحيد في حماية التشكيلات العسكرية المتبعثرة في الأهداف والغايات، وهذا ما تؤكده مظاهرات الشمال السوري، إذ أصبحت الفصائل تحتمي بالمدنيين، على خلاف ما كان سائداً طيلة الأعوام الفائتة.

ولو قدر للسوريين أجواء مماثلة في جنوب البلاد ووسطها، لما خسرت ثورتنا مهدها وعاصمتها.

وكان للمواقف العربية الهزيلة والضعيفة وارتماء التشكيلات العسكرية في أحضان استخبارات تلك الدول، السبب الرئيسي في فقدان الثورة السورية لأهم مواقعها، في حين يواصل السوريون مسيرتهم لنيل الحرية والكرامة.

مقال: محمد أمين ميرة

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*