الروائي عبد الرحمن حلاق لزيتون: الروائي يعيش الحدث مرتين.. ثمة جوهر وفكرة على الكاتب التقاطها والتأسيس عليها

أجرى الحوار: رائد رزوق
من الكويت حيث يقيم يمضي القاص والروائي عبد الرحمن حلاق في كتابة عمل روائي جديد، يتناول فيه الثورة السورية التي عايشها بتفاصيلها، وأصابه ما أصاب باقي السوريين منها، بعدما أعتقل ابنه قرابة سنتين في سجون النظام.
في الحوار التالي الذي أجرته معه زيتون، يتحدث الكاتب “حلاق” عن دور الثقافة والمبدعين في الثورة السورية، وكيف ينطلق الكاتب في نصه، ولا ينسى وجع السوريين في المعتقلات.

– أنت من المجموعة الأولى التي شاركت وساهمت بتأسيس ملتقى الأدباء الشباب في جامعة حلب. هل لك أن تحدثنا عن هذه المرحلة وأثرها في عبد الرحمن حلاق وفِي المشهد الثقافي السوري بشكل عام؟

في واقع الأمر لم أكن من المؤسسين فقد كان الملتقى منطلقاً قبل سنتين أو ثلاث عندما دخلنا الجامعة لكن في السنة التي دخلت فيها الجامعة دخلها زملاء كثر ممن كانت مواهبهم قيد التفتح وقد أسهم وجودنا بإغناء الملتقى وإثرائه. وبات من المعروف محلياً الأثر الإيجابي لهذا الملتقى على مستوى الحركة الأدبية السورية فقد أنتج مجموعة من الأسماء يشار لها بالبنان، بالنسبة لي كان الملتقى بمثابة مدرسة أدبية أسهمت بشكل فعال في بلورة رؤيتي الفكرية والأدبية، فالنقاشات التي كانت تثار وحضور عدد من أساتذة النقد والأدب كان لهما دوراً مميزاً في تطورنا الكتابي.

– بدايتك مع الأدب كانت مع القصة القصيرة ولكنك بعد مجموعتك القصصية الأولى نجدك قد توجهت نحو الرواية. هل برأيك فن القصة القصيرة تراجع أمام الرواية؟

ما تزال القصة القصيرة تحتفظ في داخلي بمكانتها العظيمة وما يزال سحر أنطوان تشيخوف ماثلاً في ذهني كيوم قرأته لأول مرة، ولست من المؤمنين بأن ثمة جنس أدبي يمكن له أن يتسيد أو يهيمن على المشهد الإبداعي، إذ يبدو لي أن ثمة عوامل كثيرة تجعل المبدع يتحول من جنس إلى آخر يأتي في مقدمتها طبيعة الفكرة التي تشكل هاجساً لدى الكاتب وكثيراً من الأفكار لا تتسع لها قصة قصيرة أو قصيدة شعرية فنراها تفرض على المبدع الجنس الأدبي الذي يحتويها والواقع حافل بأمثلة عن شعراء أو كتاب قصة تحولوا إلى الرواية، وعندما يكون المجتمع قد اقترب من المفهوم المدني وتعقدت مشاكله تحضر الرواية كشكل قادر على استيعاب التحولات الكبرى.

– كنت من المجموعات الأولى التي ساهمت بتشكيل رابطة الكتاب السوريين، وتشغل حاليا عضوية اللجنة التنفيذية لهذه الرابطة، ما هي الأهداف التي وضعتموها لأنفسكم في مرحلة التأسيس، وماذا قدمت الرابطة للسوريين؟

قلة من المثقفين العرب والسوريين من استطاع التقاط اللحظة التاريخية لحركة الربيع العربي، فقد وقف الكثير ممن يدعي الإبداع والثقافة موقف المشكك من هذا الربيع، ومنهم من وقف موقف المعارض سلفاً بسبب من جهل أو تبعية أو انتفاع، وبعضهم أراد ثورة مطابقة لما قرأه في الكتب متناسياً الخصوصيات المجتمعية. 
ومن بين هذه القلة التي التقطت اللحظة التاريخية، خرجت مجموعة من الكتاب كان الهدف الأساس من تحركهم مواكبة الثورة السورية، واستطعنا تشكيل أول مؤسسة مدنية منبثقة عن الثورة بجهود فردية سورية خالصة، وتم تشكيل جسم الرابطة، وأجريت أول انتخابات، وعقد المؤتمر الأول في القاهرة بدعم أحد رجال الأعمال السوريين، وكأي تشكيل جديد لابد من بعض العثرات في بداياته الأولى، لكن وبجهود أعضاء المكتب التنفيذي (وكلها تطوعية)، استطعنا إصدار مجلة أدبية فكرية ثقافية تحت مسمى (أوراق)، صدر منها حتى الآن سبعة أعداد والثامن في المطبعة، كذلك تمت رعاية آخر دورة من دورات جائزة المزرعة، في المدى المنظور ثمة الكثير من الأحلام رغم حالة الإحباط العامة التي أصابت السوريين ككل.

– لماذا برأيك الأجسام المهنية والنقابية التي تشكلت بعد الثورة السورية لم تشكل علامة بارزة في الصيرورة التي مرت بها الثورة، فرغم نبل الهدف نجد الأداء أقل من المطلوب؟

أتفق معك في مسألة عجز هذه الأجسام عن تشكيل علامات بارزة مثلها في ذلك مثل باقي قوى المعارضة، وأعتقد أن السبب في ذلك هو ارتهان السوريين للآخر، فكما أن الفصائل المقاتلة لم تكن صاحبة القرار في معظم المعارك التي خاضتها بسبب تحكم الداعم، كذلك هذه الأجسام وقعت في المطب ذاته، للأسف الشديد بدأت الثورة سورية ثم تدخلت أجهزة مخابرات العالم أجمع، وخاصة ممن كنا نحسبهم أصدقاء سوريا لتفتيت الثورة.
لقد كان حجم الثورة المضادة أكبر بكثير من الثورة، خاصة وأن الثورة المضادة لم تنبع من الداخل السوري، بل من القوى العربية والإقليمية والدولية، وهذا يفسر كثرة المنتفعين الفاسدين ممن ركبوا قطار الثورة، وقد ساعدهم على ذلك غياب الشرفاء في المعتقلات أو تحت الأنقاض، فقد قضت عصابات الأسد على الجيل الأول والثاني من شباب الثورة، ومن بقي منهم على الساحة تم تهميشه بشكل واضح لصالح أصحاب الأجندات الخارجية. 
أما الخطأ القاتل الذي ارتكبه السوريون أثناء ثورتهم فهو غياب العمل الجماعي المنظم، فقد فرضت الفصائلية ذاتها ليس على المستوى العسكري وحسب، بل وعلى المستوى الشعبي.
– في روايتك الأولى كتبت عن أحداث الثمانينيّات في سوريا، وربما كنت من الكتاب الأوائل الذين تناولوا هذه المرحلة، هل لك أن تحدثنا عن ظروف هذا العمل؟ 


“قلاع ضامرة” كانت تدريبي الأول على الفن الروائي، لكني لم أتعامل مع النص ضمن هذا المستوى، فتجربة الثمانينات تجربة لم تتعرض للمراجعة، لا على المستوى الفكري ولا على المستوى الأدبي، وكوني قد عايشت هذه المرحلة متسلحاً بوعي سياسي معقول، فقد شعرت بواجب أخلاقي تجاه ما حدث، خاصة وأني قد قررت ترك الاتحاد الاشتراكي (فرع جمال الأتاسي) بسبب مواقف الخوف والتردد التي عانى منها، بينما كنت أرى أن الظرف التاريخي ملائم تماماً لثورة شعبية بغض النظر عما فعله الإخوان المسلمون وقتئذ، لكني اكتشفت أنه حتى الأحزاب السرية ماتزال قائمة على بعض المفاهيم القبلية، وأن هذه الأحزاب ليس في مقدورها تحريك الشارع وقيادته، وبقيت التجربة ماثلة في الذهن لحين هجرتي للعمل في الكويت، قررت عندئذ أن أكتب روايتي بمنتهى الحرية وبلا أي رقيب في الرأس، قررت أن أكتبها ولو بقيت حبيسة الأدراج، وعندما أنهيتها في عام 2006، كانت أجواء البلد تتنفس بقايا ربيع دمشق، فقررت المغامرة بنشرها، تمت الموافقة بعد حذف فقرتين ولم يخبرني الناشر بذلك إلا بعد أن استلم أجره، ثم بعد ذلك وصلتني رسالة تحذير شفهية من أحد مخبري اتحاد الكتاب العرب، فالرواية تحمل في طياتها الكثير، مما جعل أكثر من ناقد في سوريا يبوح لي بخوفه من الكتابة عنها.
– هل يفكر عبد الرحمن حلاق بعمل روائي جديد يكون مركزه الثورة السورية التي أعلن ككاتب ومثقف انتماءه لها منذ الأيام الأولى؟

في الواقع أنا أعمل منذ سنة ونصف تقريباً على كتابة رواية، وقد قطعت شوطاً معقولاً فيها، وبكل تأكيد الثورة حاضرة وبقوة في هذه الرواية، وبتصوري أن الواقع الجديد في سوريا يحتمل آلاف النصوص الروائية، وربما يأتي الوقت المناسب في سوريا حرة مستقبلاً، نقرأ ولأكثر من كاتب أعمال ملحمية عن عظمة الشعب السوري رغم ما نعيشه الآن من مظاهر تفتت، فالثورة في نهاية المطاف هي سيرورة تاريخية، وليست عملية كوماندوس ينفذها بعض الرجال، ثم يعودون إلى قواعدهم.

– يقال إن تناول الحدث التاريخي روائيا لا يكون في مصلحة الرواية الا بعد مرور زمن طويل، تكون الأمور فيه قد توضحت، بدءاً من روايتك التي تكتبها هل تجد أنها ستستطيع تجاوز هذا المطب؟

الروائي يعيش الحدث مرتين، الأولى من داخله، والثانية من خارجه، الأولى بتفاعله التام مع صناع الحدث، والثانية بتأمله الحدث ككل ومن جميع جوانبه، وفي مرحلة التأمل يفترض أن يلم الكاتب بكافة الظروف والملابسات ثم يقتحم عالم الكتابة، وفي مثل هذه الرواية ليس المطلوب تجسيد كل أحداث الثورة على كامل الأرض السورية، ثمة جوهر على الكاتب التقاطه والتأسيس عليه، وثمة فكرة على الكاتب أن يلاحقها بدقة ويستخدم في سبيل التوصل إليها أحداثاً منتقاة تارة، ومختلقة بمخيلته تارة أخرى، كي يحقق في نهاية المطاف الرسالة المراد إيصالها للمتلقي، من ناحية ثانية تعد الكتابة الآنية المرافقة للأحداث أصدق منهل للأجيال القادمة الذين سيتمكنون من إنتاج كتابات مختلفة بالتأكيد، اعتماداً على ما يكتب الآن.
لست أرى في المسألة أي مطب، وقد شهدت الساحة الأدبية ولادة روايات تتحدث عن الثورة في غاية الأهمية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، إبتسام تريسي، وسمر يزبك، ومها حسن، وغسان الجباعي، وفخر الدين فياض، وعبدالله مكسور، وغيرهم الكثير ممن لا تسعفني الذاكرة الآن بذكرهم.

– في كل الثورات نجد أن الفن من موسيقا وغناء وتشكيل ومسرح تنشط لتشكل رافعة ثقافية معرفية لأي ثورة، لماذا برأيك كان المنتج الفني للثورة السورية ليس بمستوى الحدث؟

أتفق معك بأن الفن يجب أن يكون هذه الرافعة، ودعني أخالفك بأن المنتج ليس بمستوى الحدث، فما هو المعيار الذي يقرر أن هذا المنتج بمستوى الحدث أو ليس بمستوى الحدث؟ سأنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، لو افترضنا أن أحداً لم يتدخل في الشأن السوري وتركت عصابة الأسد لتواجه مصيرها أمام الشعب السوري، كيف ستكون النتائج عندما دخل حزب الله، كان الشعب السوري على وشك إنجاز مهمته، وعندما رمت إيران بثقلها كان الشعب السوري على وشك إنجاز مهمته، وعندما دخل الروس بثقلهم كان الشعب السوري على وشك إنجاز مهمته. ما الذي كان سيحصل لو أن الشعب السوري أنجز مهمته وأقام دولته التي يسعى لها؟، بكل تأكيد كنا سنحتفل اليوم بأعمال الكتاب والفنانين الذين واكبوا الثورة بنتاجهم، وكنا سنقول إن المبدعين السوريين كانوا على مستوى الحدث، لكن استمرارية مضخة العنف بوجه هذا الشعب، بالإضافة لمكر المخابرات العربية والدولية، وإغراق الثورة بالمال جعل كل شيء يتفتت، وأسقط عن كل شيء معناه وجوهره، عندما لا تنتصر الثورة تفقد بقية التوابع معانيها الخاصة، كثير من المبدعين وعلى مختلف الأصعدة قدموا أشياء جميلة في الواقع، لكنها ستكون أجمل وستكون موضع حفاوة إن انتصرت الثورة.

– كنت كأب قد عانيت من رحلة الألم الطويلة في انتظار ابنك المعتقل، هل لك أن تحدثنا عن هذه الرحلة وكيف ينظر عبد الرحمن إلى قضية المعتقلين والمغيبين؟

ستبقى قضية المعتقلين والمغيبين وصمة عار في جبين البشرية جمعاء، فمن يعتقل إنساناً لخلاف بالرأي هو بكل تأكيد كائن لا ينتمي للإنسانية، اعتقل ابني بسبب كرتونة أدوية حيث كان يجهز مع مجموعة من زملائه شحنة مساعدات طبية لمدينة حمص التي كانت آنذاك تحت القصف اليومي والمستمر، ثم وجهت له تهم عديدة منها انتمائه لتنسيقية أطباء، والكارثة أن الانتماء لتنسيقية أطباء كان أخطر تهمة توجه لمعتقلي المخابرات الجوية في دمشق، كذلك وجهت له تهمة التخابر مع الخارج، بقي سنة وشهر في المخابرات الجوية، وجالوا به كافة الفروع التابع لها من الفرقة الرابعة لمطار المزة لغيره، ثم أكمل بقية السنتين في سجن عدرا، كانت الأخبار تصلنا متضاربة ومتقطعة في السنة الأولى، لم يصلنا عنه أي خبر تقريباً، عندما كنت أتوجه بالدعاء، كنت أدعو لكافة المعتقلين، كنت أعتبر كل معتقل هو ابني وكل معتقلة هي ابنتي، حتى أن أمه أسست صفحة خاصة على صفحة التواصل الاجتماعي تحت عنوان “كلهم أولادي” ولعل قضية المعتقلين هي القضية الأولى التي جعلتني أتّهم قوى المعارضة خاصة “الائتلاف الوطني”، ومن بعده هيئات التفاوض بالخيانة، فقط لكونهم لم يضعوا قضية المعتقلين في صدارة الاهتمام، فما يعانيه المعتقل في السجون الأسدية وفي معتقلات بعض الفصائل الإسلامية، لا يعانيه معتقل على وجه الأرض، وكأنما خصنا الله بروبوتات شيطانية مبرمجة فقط على القتل والتعذيب.

• عبد الرحمن حلاق 1960 قاص وروائي سوري ، مقيم في الكويت، يعمل مدرساً للغة العربية ، عضو المكتب التنفيذي في رابطة الكتاب السوريين، وعضو هيئة تحرير مجلة أوراق الصادرة عن رابطة الكتاب السوريين. 
صدر له: “صباحات مهشمة ـ قصص 2002 عن دار عبد المنعم ناشرون – حلب، قلاع ضامرة ـ رواية 2007 عن دار الحوار.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*