الشيخ امام (حياة كاملة من تحطيم القيود)

11996960_978961292171385_1780370957_n

كانَ لا بدَ من وجودِ شخصٍ يهزَ الانسانَ المنسي بداخلنا , ويوقظَ بنا الارادةَ الحقيقة للحياة , و يجعلنا نبصرُ في ظلماتِ ما نعيشُ وما نقاسي .
«الشيخ امام» أو «إمام محمد أحمد عيسى» ومن غيرهُ تمكنَ من زرعِ الأملِ في مستنقعاتِ حياتنا الروتينية الخانعة .
من واقعِ الموتِ والفقرِ والقهرِ , كان الوحيدُ الذي استمرَ بالحياة من بين جميعِ أولادِ تلكَ الأسرةِ التي عاشت في قريةِ «أبو النمرس – الجيزة» .
كانت تكفيهِ لحظاتٍ من النور في سنتهِ الأولى ليفهمَ واقعنا , حينَ أصابهُ «الرمد الحبيبي» الذي أودى ببصرهِ بعد تمكنِ الجهلةِ من استخدامِ كلِ شيءٍ الا العلاج الحقيقي .
القسوة والتشديد سمة علاقة الوالد ب «امام» ,ومع ذلك لم يُفلح في اتمامِ مهمةِ تحويلهِ الى شيخٍ كبير, كما تمنى حينَ كانَ «امام» قد حفظ القرآن على يد الشيخ ورئيس الجمعية الشرعية «عبد القادر ندا», وتلك بداية شجعت أباه على التمسكِ بأمنيتهِ , الشيخ «عبد القادر» آمنَ بقدرةِ «امام» الكبيرة على الحفظ لامتلاكه ذهناً صافٍ ندرَ وجودهُ, الشيخ عبد القادر « كان قد لاحظ منذ البداية في ذلك الطفل القدرة على التجويد , حيث تعلم خلال سنواته مع الجمعية قراءة القرآن وترتيله على القبور وحفظه، ولما يبلغ الخامسة عشر .
احترف «امام» الترتيل ولسنواتٍ من عمرهِ كانَ يرتلٌ في كلِ مكانٍ يُدعى اليهِ.
ولكن كانت الاذاعة والاستماع اليها بدعة ممنوعة في قوانين الجمعية الشرعية , حين وقع شيخنا في سحر ذلك الصندوق الخشبي الناطق, كان قد أحب الشيخ محمد رفعت («قيثارة السماء») والذي كان يسمعه من خلال الاذاعة مما دفع الجمعية لفصله نهائياً.
نفاه الوالد الخائب الأمل و الذي صدمته أخبار الفصل , ليجد «امام» نفسه مشرداً ما بين نهارٍ يقضيه في «الحسين» وليلٍ ينامهُ في الازهر , قاسٍ ما عاناهُ حينها , لم يقتصر الأمر على الضرب والاهانة بل وصلت الى تحذيرهِ من العودة الى القرية , فـ فارقها والنكبات تبعته منذ ذلك اليوم , فكان فقد الحنان الأكبر في حياته أمه التي لم يتمكن من حضور تشييع جثمانها , ولم يعد الى تلك القرية الا حين رحل والده .
هناك انطلق :
في أحد أزقةِ حي الغورية , كانَ «امام» قد التقى بأفرادٍ من قريتهِ وسكنَ معهم , وتابع في الانشاد والتلاوة حتى باتت مهنته التي خولته من كسب اعجاب «الشيخ درويش الحريري « (أحد كبار الموسيقى في ذلك الزمن) والذي كان قد عرّفهُ ب «الشيخ زكريا أحمد « والذي كان قد قدمَ ألحاناً لأم كلثوم ساعده فيها «امام» حيث كان يحفظها ويكشف ضعفها وقوتها, وبعد فترة تخلى «زكريا احمد» عنه بعد تسرب ألحانه.
كان الشيخ درويش الحريري قد ساعد «امام» في تعلم الموسيقى وأصولها وعرفه في تلك الفترة على فنانين ومقرئين كبار ك محمد صبح , بعد تخلي زكريا أحمد عن امام تملكته الرغبة في صنع موسيقاه الخاصة وبدأ بتعلم العود على يد «كامل الحمصاني» , فلحنَّ وكتبَ وبدأ يفكرُ في نتاجِ الموسيقى التي يريد و تغيرت مع ذلكَ عدة أمورٍ في حياتهِ أهمها ابتعادهُ عن سماعِ القرآن والخروج من الزي الأزهري إلى الزي المدني .
الثنائي الخالد , الثلاثي العظيم :
يطول الحديث عن أيامهما الحافلة , لم يكن الشيخ امام قد لحن شيئاً بعد , شاء القدر أن يسأل «نجم» «الشيخ امام» بعد أن جمعهما صديق مشترك لماذا لم يلحن إلى الأن ؟؟ كان جوابه بأنه لم يجد ما يشجع ,فكانت البداية هنا .
الشيخ امام مع أحمد فؤاد نجم شكلا عصباً أساسياً في الأغنية الملتزمة والتي لازالت عناوينها تقود أهم نضالات الشعوب , وبدأت سلاسل ابداعهم بعد هذا اللقاء في عام «1962» وتوسعت مع دخول عازف الايقاع «محمد علي» الذي أصبحَ ثالثَ زاويةٍ في مثلثِ العظمة ,هذا المثلث دخلَ الوسطَ الفني الذي مازال ينحني لعظمةِ حروفِ «نجم» وايقاع «محمد علي» والحان وصوت «امام» , ذلك الصوت الذي مازال الى اليوم حياً.
لن يقوى القيد على الفكر :
الاغنيةُ وحدها ما جعل أصحابنا في السجن ,حيث كان «الشيخ» أول من حوكم من فناني العرب بسببِ الأغنية ,لم تكُن الأصوات المصرية قد صُدِمت لهذهِ الفكرة بقدرِ صدمةِ «الشيخ امام» بخسارة ال67 والتي حولتهُ مع شريكهِ «نجم» الى ما نعرِفه من سخريةٍ وانتقادٍ لكل شيء خاطئ في الساسةِ والسياسةِ جمعاء , فخرجت من صدمتهم «البقرة النطاحة و « يعيش أهل بلدى وبينهم مفيش – تعارف يخلى التحالف يعيش « وغيرها من الكلماتِ التي تحولت الى صحوةٍ بعد فترة وشحذٍ للهممِ ودعمٍ لمعنوياتِ الشعب .
كانَ في البدايةِ مرحباً بهذه الكلمات والألحان في مصر حيثُ أحيا «شيخنا» حفلةً في نادي الصحفيين وتحتَ رعايةِ الاعلام ,لم تَدم أفراحهم بعدها كثيراً حيثُ انقلبت الحالةُ من مرحبٍ بهم الى ملاحقين.
اعتقل أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لمواقفهما السياسية، كما اعتقلا في عهد الرئيس الراحل أنور السادات أكثر من مرة بعدما أطلقا عليه أكبر حملة سخرية ضد حاكم مصري على الرغم من استقبالهما حرب أكتوبر بأغنية «دولا مين ودولا مين».
بعدَ هجومِ «الشيخ» بأغانيه مع ال «نجم» على القضاءِ والقوانين التي برئَت المسؤولين عن هزيمةِ ال «1967» وكانَ دخولهما الأول للقضاء بتهمةِ الحشيش عام 1969 والتي لم توصلهم للمؤبد الا بعد فترةٍ من الملاحقة ليكون «ِشيخنا» ورفيقه «نجم» أول محكومين بسبب الأغنية في تاريخ العرب الثقافي .11994338_978960882171426_1890848358_n
سجن تلوَ أخر , ينتقلان بلا أمل بالخروج ,الا أن عجلة الابداع لم تتوقف فخرجت من ظلمات زنزانتهم الى النور «شيد قصورك « التي كان ينشدها في طريق أخذه لعتمة أخرى, ولم يبصرا النور بعدها حتى اغتيال الرئيس أنور السادات .
وانطلق بعدها امام الى فرنسا والعالم العربي ليقدم حفلات لاقت نجاحاً جماهيرياً كبير جعل الشيخ امام وفؤاد أحمد نجم أيقونة في عالم النضال والحرية , ولكن الخلافات بدأت بالدخول الى حياة الثلاثي الجميل والتي لم تنتهي الا قبل وفاة الشيخ بفترة قصيرة .
مات البطل :
مات البطل , ليس فوق المدفع انما في عزلته التي آثرها بأخر أيامه , في تلك الغرفة الصغيرة المتواضعة بحي الغورية حيث مات الشيخ البطل , الصوت الحقيقي لكل نضال, رحل بصمت وهدوء عام 1995 بعد مسيرة من الشقاء والمعاناة والنضال من جهة, والصدق والوفاء من جهة أخرى .
«ما دامت مصر ولاده
وفيها الطلق والعادة
ح تفضل شمسها طالعه
برغم القلعة والزنازين»…
رحل ولكن الأمل المخبأ في ثنايا كلماته لم يرحل .

محمد حاج حسين