الصمت سيّد الكلمات

get-3-2011-w7q2wn0v

صمت.. صمت.. صمت
في البدء كان الصمت.. سيّداً متربّعا على عرش الكلام وصامت على تآمره والاختصام والتصارع بين حروفه، ولأنّه من ذهب ضاق ذرعاً بثرثرة الفضّة، ولكونه يحترم مصموتيّته انسرق جانباً وظلّ مصرّاً ببصيرته ووقاره على الاستغراق في صمته والاستماع في وضح النهار إلى تطاحن الكلمات وتبعثر حروفها حتّى استسلمت وأعلنت عجزها رافعة مجرورها وناصبة مرفوعها ومسكّنة مفتوحها.

أشفق الصمت عليها وأدخلها في كينونة تصميته مشفقاً على عجزها الإنبائيّ ومتولّياً مهمّة الإنباء عنها جازماً أنّه ليس عدماً لغويّاً، بل هو عدم نطقيّ، لذلك تمارس عليه قوى التخلّف والاستبداد سلطتها وهيمنتها الممأسسة وتحوّله بقوة الإرهاب إلى تصميت يفرض على السواد الأعظم من البسطاء المثبّطين ليصيروا بمثابة وحدات تتغذى عليها لوحات كهربائيّة تنير شاشة بكلّ الألوان تسطع عليها صورة أب بائد، وقائد قوّاد، أو هم بمثابة القاعدة التي انتصب عليها نصب نصّاب منتصب مصاب بلوثة النرجسيّة، يرى ذاته في كلّ حيثيات الوطن، ويرى الوطن مختزلاً في حيثياته، مبتسماً تارة وأخرى متجهّماً في زيّه العسكريّ يلقي التحيّة على الرعيّة ومحْرماً في لباس الحجيج يطوف ويسبّح بحمد من خلقه في أحسن تقويم ومنّ عليه ليكون أحكم الحاكمين، ووارثاً لهذا الوطن وما عليه.
وصمت الصورة أو الصنم هنا ليس صمتاً محايداً، بل هو صمت إرهابيّ متواطئ يوشي بلغة لها دلالتها ومدلولاتها ويغدو ما يوحي به من خطاب هو الأوحد والوحيد، وعلى الرعيّة أن تسمع وتحفظ وتردّد ما يشاء، وما يريد وتعمّ وتُعمّم لغته الديموغجيّة ويغدو خطابه هو الخطاب السائد. ويُصمّت قسراً من يتكلّم بلغة مغايرة، إمّا بسجنه أو نفيه، وإن اقتضى الأمر اغتياله وتصميت جسده، فإمّا لغته وإما الصمت، والذي هو سلاح المستضعف في وجه المتجبّر سلاح الضحيّة الأقوى في وجه جلاده، لا يُخرج الجلاد عن طوره ويوهن عزمه وعزيمته إلّا صمت الضحيّة، وتتسع رقعة الصمت المتربّص الذي يخمّر في جوفه كلاماً يهيئ لأفعال، والتصميت الذي تفرضه السلطة بالإرهاب تناسباً طرديّاً مع هيمنة قوى التخلّف والاستبداد وتابوات المحرّمات والمعيبات.
وتعشعش وتتكاثر الشياطين الخرساء الصامتة عن الحقّ في رحم هذه المجتمعات، ولكنّها تبقى مترفعة ولو درجة عن المسوّقين للغة الديموغجية التي تمجّد الشيطان، وكلما ازدادت حركيّة المجتمع وتحضره وحريّته تتناقص مساحة صمته وتصميته.
وعلى الصعيد الذاتي تسعفنا لغة الصمت الأقوى عندما تخوّننا لغة الكلمات وتعلن عجزها في ذروة المتناقضات من شدّة مشاعر فرحنا وحزننا، حيث يسود الصمت «فالصمت في حرم الجمال جمال» والصمت في هيبة الحزن جلال، والصمت ليس أسود وما هو بظلام، لكنّه تخماً ونصلاً فاصلاً بمثابة الاستراحة بين ضوءين، بين فعلين أو هو ثقب أسود في الفضاء اللغويّ يبتلع ما يناسبه من مفرداته، ويقذفه أحياناً بشكل انفجاريّ.
ويستمدّ الصمت طابعه من صامته فهو عبوديّة لدى الجبناء ومتآمر عند الخبثاء وإرهابيّ ونرجسيّ قاتل هو صمت الطغاة.
وترقد في حنايا الصمت متعة الإصغاء وملكة التعلّم فمن لا يصغي لا يتعلّم ومن لا يتعلّم يتجهّل، فالصمت تاج، وقار على رؤوس الحكماء لا يدركه الثرثارون، وهو ليس حالة عديمة وعدميّة، إنّه حركة سكنت وتوقفت بدون ضجيج.
إنّه كامن في كلّ المكوّنات، هو ليل الكون واستراحة القلب وثالث مكوّنات الموسيقى إضافة إلى الصوت والايقاع، وقد يتآمر الصمت أحياناً مع المكان لفرض حالة خشوع أو فرح، وصمت الأمكنة التي ألفناها وألفتنا مؤلم وحزين وتصميتها بقرقعة نيزك قادم من السماء على هيئة برميل، نكبة وفجيعة تجمّد دموع المكان وتصمّته عنوة، فيبكي ولا يسمع نحيبه ولا يتحسّس ملوحة دموعه إلا عاشقه وبانيه ويبقى صمته ناطقاً بكلّ اللغات يلعن الطغاة ويبصق على الصمت المتواطئ من قبل الجميع.
وصمت المكان الجديد واللامألوف رهيباً وفي أحسن الأحوال موحشاً، وصمتك بين قوم لا تجيد لغتهم حيرة ووجعاً له رائحة الغربة والغرابة، ووجودك في مكان ما أنت بفاعل فيه هو تصميت لملكاتك وإمكانياتك، فاللغة الثرثارة وغير الفاعلة هي صمت زائف ومزيّف، واللغة السيّئة والمسيئة عبارة عن درنات أوساخ ورذائل علقت بأطراف قداسة الصمت الذي كان في البدء نظيفاً، وجاهد أن يبقى كذلك وينجز كلّ أفعاله دونما تفاخراً وافتخاراً وعرضاً واستعراضاً.
ولكنّ الطبيعة أوشت به لأغلب مكوّناتها فراحت تحيك المؤامرات عليه وتخدشه بسكاكين أصوات مبهمة وغير واضحة المعنى، تخدش ولو قليلاً كبرياءه، لكنّه كان يرمّمها بسرعة وهدوء ويصمت عنها باعتبار أنّها لا تؤذي كينونته.
ومع ملايين السنين استطاعت تلك المكوّنات أن تلد لغة الكلمات التي قطعت الصمت ولوّثته بلوثتها وجزّأته إلى وحدات تطفّلت عليه وتشاركت معه الكون باعتباره الزمن بثوانيه وساعته والأدهى أنّها حاولت أن تنقل إليه الكثير من بذاءاتها وسيّئاتها، وكان شرطه للقبول أن يدفن في رحمه مفاتنها والحسناوات من مفرداتها، وألّا يشاركها النميمة على كائن من كان، لكنّها تحايلت وتمرّدت عليه ونجحت أحياناً في غوايته وتحميله البذيء من شطّطها.
وصمت الخطاب هو المعنى الآخر والمسكوت عنه وإلّا مزيّف في كلّ النصوص وهو الوجه الأكثر نصاعة ومصداقيّة لما تصمت عنه النصوص وتخبئه بين كلماتها وجملها وفواصلها وعلامات ترقيمها، وما يصمت عنه النصّ قد يكون هو الأهمّ، وصمت القارئ بعد قراءة هذا النصّ هو نصّ آخر قد يكون أكثر صدقاً وإبلاغاً.

أسعد شلاش