الـفـنّــان ســعــد يَـكَــن واكتشافه الحياة المشوّهة

 

11911013_941503115907736_1411765425_n

في مدينة حلب كان مقهى القصر كالقفص بلا أسلاك, يرتاده أشهر المبدعين والكتّاب والفنانين, حيث يجدون فيه الجوّ الثقافي والحديث المشترك, والتجانس والتقارب في النظرة المستقبلية للبلاد وللعالم أجمع, والحريّة في طرح وتبادل الأفكار والسلوك.
فكان لكل منهم طاولته المحدّدة, ويتعمّدون أن تكون ملاصقة للجدران الداخلية البعيدة عين أعين المارة في الشارعين المطلّين من خلال الواجهات الزجاجية الكبيرة والتي كتب عليها بخطً ظاهرٍ ( الصّـالة مكـيّـفة ). وهي ميّزة كانت نادرة في أواخر الستينيات من القرن الماضي.
كان لايغيب عن ذلك المقهى كلاً من المبدع لؤي كيالي والكاتب المتنوع الإنتاج وليد إخلاصي والكاتب المسرحي عبدالفتاح قلعجي والفنان ســعد يكن الذي هو مقصدنا اليوم بكلمات قد لا توفيه بعضاً من حقه.
ذلك أن سعد يكن قد يكون أصغرهم سنّا لكنه كان يتنقل بينهم بسمعه وبصره ويستوعب كل مايقال حوله, وبصمت كبير كان يعدّ نفسه وطريقته بالتعبير في لوحاته التي يحاول جاهداً أن لاتكون أقل تميّزاً عن لؤي كيالي في لوحاته القريبة من روح الشعب وطبقاته المنهكة الفقيرة.
لذلك أراد أن يضيف مبالغة وتضخيماً لما يريد الوصول إليه من خلال تشويه وتحوير معالم الوجوه البشرية التي هي موضوع لوحاته كلها.
ومهما يكن الفارق بين الإتجاهين إلاّ أنني أتلمّس خيطاً مشتركاً يربط بين صوت الأنين والوجع الذي يجمع بين إنتاجهم جميعا من تصوير حزين أو رواية مأساويّة أو مسرحية اللامعقول.
ولقد اعتمد طويلا على تجسيد الأسطورة في أقصى حالات التعبير عن جماليات الحدث وتفاصيله معتمدا أيضاً على الفانتازيا البصريّة التي اعتاد على تحقيقها في معظم أعماله الفنيّة التي أوجدت إشكالية كبرى في الفنون التشكيلية وعلم الجمال بشكل عام.
لم يعتد الفنان سعد يكن على انتاج لوحات متفرقة المواضيع وخاصة بعد أن انطلق بانتاجه الفني وانتشرت أعماله المشاركة دائما في المعارض داخل سوريا أو في المعارض الخارجية, بل راح يعتمد على العمل لإنتاج مجموعات من اللوحات تحمل الهمّ والموضوع الموحّد لذلك جاءت مجموعاته تحت اسم الأيقونة الحلبيّة, وملحمة جلجامش, وألف ليلة وليلة, والطوفان… وغيرها وذلك لأنّه كان يريد أن يعبّر بأفكاره عن مجموعة من القضايا التي لايتسع سطح اللوحة الواحدة لها وهي مجتمعة. وغالبا ماتتميز وجوه لوحاته بمسحة من الحزن والكآبة التي لاتفارقها حتى في مواضيع الأفراح ــ هذا إن وُجِدَ الفرح ــ .
فألوانه شبه موحدة الألوان والدرجات. ومهما حاول العمل على شفافيتها إلاّ أنّ المتلقي سيشعر دائما بأنّها مخنوقة تريد أن تتحرر وتنطلق خارج إطار اللوحة.
وإنّ ما يزيد انغلاق وحبس عناصر اللوحة اعتماده على رسم عناصرها بخط أسود غليظ, يحدد كل جزء منها بخطوط متداخلة ومتشابكة, وبذلك يزيد من الضغط في سطح اللّوحة وحبس العناصر بشكل مأساوي.
لكنه بالمقابل كان يسعى لتصميم لوحاته وطرح مواضيعه المختلفة, وتناولها من زوايا حادّة لافتةٍ يغنيها بإضاءاتٍ مركّزة على الأجزاء المعتمة في موضوعاته دون أن يفقدها خصوصيتها معتمداً على الدراما في المشهد لتحقيق المتعة لعين المشاهد من جهة ولبصيرتة الذهنيّة من جهة أخرى.
لهذه الأسباب كان النّـاظـر المتأمل لمواضيعه يقف حائراً ليسأل نفسه السؤال الصعب: – ماذا يريد سعد يكن أن يقول؟
لقد اعتاد ــ موطننا العاديّ ــ أن يتلمّس الجّمال بالمقاييس المعتادة والتمتع بمشاهدة اللّوحات السّياحية الكلاسيكية والمناظر الطبيعيّة التي تستهوي بالعادة أصحاب الصالونات الفاخرة لتزيينها, ولتكون قطعة ظاهرة من الديكورالباهر, تماماً كما كان يشاهدها في مناظر الأفلام السينمائية, بينما يجد لوحات سـعد يـكـن صادمة تبعث على التفكير وتحليل الهدف الذي أراده من خلال التحوير والتشويه في الأجساد والوجوه على السواء, وهذا ماكانت تتفهمه وتستوعبه النخبة المثقفة الواعية أكثر من سواها, لأن لوحاته لها جوٌ خاصٌ من حيث الشكل والمضمون تميزه عن غيره من التشكيليين المعاصرين المحليين والعالميين لأنه يقدم اعمالاً أقرب الى العبثيّة والغموض.. إنّما بخلفية واقعيّة محبّبة.
قال عنه الأديب وليد إخلاصي :
« سـعد يـكن هو الأمين الوفيّ للذاكرة التي لم تكن شرقيّة ولا غربية, هجم بريشته ورؤيته على ماضي الحكايات, ليجعل منها حاضراً.. سيكون مستقبلاً, فكأنما يضعنا هنا في مسيرة التواصل بين الأزمان
لعل الفنان سعد يكن قد استبق الأحداث الدامية التي نعيشها الآن في سورية المنكوبة, وشاهد بعينه الخراب الذي حدث لأحياء مدينته في حلب.
فصوّر المآسي قبل حصولها وانعكاسها على من تبقى من الأهل والأصحاب, والمنازل التي انهارت فوق ساكنيها مخلفة كارثة لاتـنمـحي تركاتها, لذلك ترك مدينته التي عشقها أكثر من جميع مدن المعمورة, وهاجر الى بيروت بعد أن شاهد تشويهاً في الواقع, فاق ماكان يريد أن يوصله إلينا من خلال أعماله السابقة.
ومهما كانت لوحاته صادمة لنظرنا إلاّ أنّـها تحمل دلالات تعبيرية غريبة, تلتقي مع أفكار الروايات المأساوية ومسرحيات الامعقول الهادفة.

عبد الرزاق كنجو