بين ربيعي براغ وسوريا والقاسم المشترك في رواية خفة الكائن

زيتون – ياسمين جاني
في رائعته الروائية «خفة الكائن التي لا تحتمل» يتناول الكاتب ميلان كونديرا الفترة التاريخية التي دخل بها الجيش السوفييتي شوارع العاصمة التشيكوسلوفاكية براغ في آب 1986 لقمع ربيع براغ المطالب بالديمقراطية.
الرواية الفلسفية العميقة التي قدمها كونديرا بشكل أقل ما يقال عنه أنه رائع، والتي اهتمت بالنزعات النفسية في الإنسان ومخاوفه إضافة إلى مفاهيم جدلية كالتكرار التاريخي أو ما يسميه الكاتب «العَود الأبدي» وماهية الثقل والخفة وعلاقتهما بالسعادة والحزن، استغل بها الكاتب فترة الاحتلال السوفييتي ليقدم بعداً جديداً للإنسانية والصدق.


في مشهد ليس ببعيد عن الواقع السوري يركض أهالي براغ في الشوارع صارخين «ها هم قادمون» لتظهر الدبابات السوفييتية محطمة الحياة في براغ، ثم تليها لقطات للطائرات والمظاهرات المناهضة لوجودهم، ما يدفع الأهالي إلى الخروج من المدينة رافضين الحياة تحت نير المحتل.

تدور الرواية حول طبيب شاب يدعى توماس يعيش حياة جنسية منفلتة، تربطه بتيريزا وهي فتاة ريفية قصة حب تفضي إلى زواجهما، وبينما يحافظ على علاقاته السابقة إلى جانب علاقته بصديقة مميزة تسمى سابينا، يدور الصراع بين هؤلاء الشخصيات الثلاثة، ومن خلالهما يكشف الكاتب عما يريد قوله عن خبايا النفس البشرية ومعاني الحب والخيانة والرغبة من الانعتاق من الزيف.
عدم الزيف هو ما تحبه سابينا في توماس، وهو ما يجسده في رفضه النوم مع أية امرأة، معبرا عن خشية تورطه مع النساء، فهو يدرك أن النوم سيفضي إلى التعاطف والحب، أي الفخ الذي يتجنبه دائماً.

في حالة تيريزا فان حالة الانفلونزا التي سقطت بها الفتاة أثناء تواجدها في منزله، أجبره على إبقائها ما أوقعه في المحظور من الحب، لكن الألم الذي عاشته من تلمس خياناته لها يأخذ حيزا كبيرا من الرواية وحياتهما.
هذه الرواية تمس كل من يقرأها بشكل أو بآخر هذا إن لم تعريه أمام نفسه، شأن كل الروايات العظيمة، كما تعري حركة التاريخ أمامنا نحن السوريون، فما فعله الاتحاد السوفييتي سابقا بسحقه لربيع براغ تعيده روسيا حاليا في تدمير الثورة السورية، في صورة تجسد ما يريد أن يقوله الكاتب في روايته بمصطلح «العود الأبدي».

في الحوارات الصريحة حد الصدم يدور إحداها حول هوس توماس بتغيير النساء في حياته، ليكشف الكاتب عن سر افتتان البطل بكل أنثى، فالتفاصيل التي تخص كل واحدة منهن هي سر الجذب له، وكل امرأة هي أرض جديدة، وحياة مختلفة، هذه الخفة في العواطف لديه هي ما تكرهها تيريزا التي تؤمن بثقل الحب واستقراره على شخص واحد.

الرواية تحير القارئ في بطلها الخفيف، فمن متهتك بعلاقاته النسائية إلى صلب ثائر، وإصراره على عدم اعتذاره عن مقال كتبه يطلب فيه من الشيوعيين أن يفقؤوا أعينهم على جرائمهم أسوة بأوديب في أسطورته بعدما اكتشف خطاياه، سبب له هذا المقال سحب رخصته بممارسة الطب، ليتحول بعدها إلى ماسح زجاج، ثم ليهرب إلى الريف مع زوجته ويعيشا هناك ما تبقى لهما من حياة.
وكما أعادت الحياة المأساة في سوريا من نزوح وتشرد وظلم جراء ثورتها، تعرض الرواية خروج أهالي براغ من المدينة رافضين بقائهم تحت سلطة المحتل، كما يتابع عناصر الأمن صور المظاهرات والاحتجاجات ليلاحقوا كل من تظاهر وليجبروا من تبقى منهم على توقيع أوراق مذلة في الخضوع للنظام الحاكم.

وعلى المستوى الشخصي تجد تيريزا أن صوراً لعراة لدى الصحافة الغربية، أهم مما صورته من اقتحام الجيش السوفييتي لبراغ وصور الدمار والحرب، وهو ما يتقاطع مع تجاهل العالم لما يجري اليوم في سوريا.

عظمة الرواية تأتي من فهمها العميق للنفس البشرية، فرغم صراع الأطراف فيها إلا أنك عاجز عن التعاطف مع طرف ضد آخر، تدفعك بفضول إلى معرفة تبريرات أخطائه، والاقتناع بها لأنك أنت قد وقعت بتلك الأخطاء ومارستها، كل الأطراف مخطئة كما أنها بذات اللحظة محقة، هذا التضاد الذي يحول الحبيب إلى عدو والعادي إلى استثنائي.

ما بين ربيع براغ وربيع سوريا أحلام واحدة وعدو واحد، وبشر تاقوا لحياة كريمة سحقتها أحذية العسكر، لتبقى عجلة الحياة مستمرة بأدوار ثابتة للضحايا والجلادين في دورة لن تتوقف ما دام الإنسان يتأرجح بين حب السلطة والحرية.

تعليق واحد

  1. كيف بدنا نحصل على هذه الرواية

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*