تنمُر

زيتون – سحر الأحمد

#ناجيات_أم_ليس_بعد #Survivors_or_not_yet

تقدم مني، بصوت قاضٍ صارم، سينطق بالحكم، بعد أن أُنهك من دراسة ملفي، قال: “غانيةٌ أنتِ، عاهرةٌ أنتِ، رفيقتي، قديستي، زوجتي أنتِ”، بدون مقدمات، ضمني إلى صدره، حتى خلته أطبق على ضلوعي، وأجهش بالبكاء، تشظت كلماته في قلبي، وفي عقلي، وفي كبدي، ثم تجمعت واستقرت بروحي، اليوم فقط، في هذه اللحظات تحديداً، أمسكت أنا بحقيقتي معه.

على منبر إحدى الندوات الفكرية التقيته، أول مرة، أبهرني حضور عقله، فتماهينا على مر السنين، بكل التفاصيل الحياتية، إلى أن جاء يوم، وغُيبت بزنازين النظام، لموقفي من ثورة الحرية، على الحكم السائد في البلاد.

غريب بعض البشر، حين يموت الإنسان داخلهم، ويخرج وحشهم! والأغرب إذا صار التوحش لعبة للتسلية، لهؤلاء الكائنات! فابتكروا أساليب تعذيب بحق بعضهم، لا تخطر على بال الشيطان نفسه.

سعاد (25) سنة، كانت محظية إحدى الليالي السوداء التي نعيشها في هذه الجهنم، فقد وقع الخيار عليها تلك الليلة، فُتح باب زنزانتنا، دخل ابن جلدتنا، وسجاننا، بيده عصى غليظة، ممشوقة.

ناداها بدون تفكير، بكثير من الرعب، لبّت النداء، ليقينها ما سينالها منه أو من غيره من السجّانين لو تلكأت في القدوم، وقفت أمامه مطأطئة الرأس، ترتعد كعصفور غرق في المطر، بليلة شتاء باردة.

قال وهو يقهقه ملئ شدقيه: “هذه كلها لكِ” مشيراً إلى العصى، وأمرها أن تخلع كل ما يستر لحمها، وبدأ يدور حولها بشكل هيستيري، بعد أن قيدها، وأمامنا جميعاً، اغتصبها بالعصى، عدة مرات، لم تزده توسلاتها وبكائها ووجعها إلا مجون، وحركات بهلوانية، وصراخ مجنون.

لا أدري كم عُمر مرَ على سعاد وهي على هذه الحال! بعد أن أفرغ شحنته الشيطانية، لهذه الليلة، تركها تتلوى والعصى داخل رحمها وخرج بعد إصدار الأمر لنا، بعدم الاقتراب منها، وإلا سيكون لنا مثل مصيرها.

أذكر تلك الليلة، بوضوح حيث بقيت سعاد تنزف وتتنفس لطلوع الفجر، وفجأة! توقفت عن البكاء والصراخ والتنفس إلى الأبد.

يومها، نقمت على الحياة أنا وزميلاتي وكرهناها، لأن كل واحدة منا مدعوة إلى مسرح الموت للرقص في كل ليلة، واحتمال أن يكون الرقص جماعياً.

غادرتنا روحنا منذ أن دخلنا هذا الجحيم، وأصبحنا مجرد كتل وأرقام تتحرك.

لم أصدق عندما أعلموني بقرار إطلاق سراحي، وأني أصبحت من “الناجيات” بصفقة تبادل وتسوية، إلا حين وجدتني خارج بوابة المعتقل

بعد شهور من الغياب عن الحياة.

قبل أن يتركني بالخارج ويدخل ويغلق الباب، أمسكت بقلبي الحقيقة، وفصلت ضلوعي عن صدره، وابتعدنا عنه وعن بيتي، الذي شهد أجمل فصول حياتي.

وصلت باب بيتي بعد أن خانتني ذاكرتي مراراً، وخذلني عقلي، فكان يبتعد عني تارة، ويقترب تارة أخرى، يدور حولي مقهقهاً هازئاً من اتزاني وتركيزي، فرأف بحالي أخيراً واستقر برأسي، وأوصلني إلى بيتي.

لم أنتظر فتح الباب بعد أن قرعت الجرس مرات متواصلة، كنت أركله بقدميّ ويديّ، وأنا أنادي زوجي، كمن مات، ورُدّ عليه التراب، فجأة! عادت له الروح، فراح ينبش قبره ليخرج ثانية إلى الحياة.

فُتح الباب، فبدى الذهول على وجه، عندما رأني، لم ينطق بكلمة واحدة، تعابير وجهه تكلمت عنه، سمعت دقات قلبه شفتاه رقصت فرحاً بقدومي، لكن عيونه كانت تقول دون ان تقول:

“كنتُ كل ليلة بغيابكِ أخلد إلى النوم فلا أنام، تمر عليّ صور ما يحدث لكِ من قبل رجال مجهولين، أحبك.. وأعلم يقيناً، أنك مسلوبة الارادة، لا حول لكِ ولا قوة، بكل التفاصيل، يشلني عجزي حيال غيابك، ها قد عدتي! قلبي يحدثني بأنك أنتِ.. ولكن عقلي يجزم بأنك لستِ أنت”.

قبل أن يتركني بالخارج ويدخل ويغلق الباب، أمسكت بقلبي الحقيقة، وفصلت ضلوعي عن صدره، وابتعدنا عنه وعن بيتي، الذي شهد أجمل فصول حياتي.

سافرت إلى إحدى الدول الأجنبية، بعد أن علمت ان زوجي، المحاضر بالجامعة قد أشاع بين الجميع خبر موتي في المعتقل، ليرتاح من حالة الفصام التي لبسته أثناء اعتقالي.

يقال أنه في كل نهار يمشي بشوارع المدينة وهو يردد:

أنزلني الدهرُ على حكمه /     من شامخٍ عالٍ إلى خفضِ

وغالني الدهرُ بوفر الغنى / فليس لي مال سوى عِرضي

وعندما يقبل الليل، يبدأ بالبكاء حتى طلوع الفجر، ولم يعلم أحد لماذا إلى اليوم.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*