ثلاث كاسات سكر وشهيدين

زيتون – تيسير محمد

– ماما الحلويات اللي بتعمليها طيبة كتير وأنا بحبا كتير، بدك تعلميني كيف أعملها مشان بس بدي أعمل وآكل وما عذبك.
– ألف صحة يا روحي، انتي لساتك صغيرة كل ما بدك احكيلي وأنا بعملك أحلى حلويات.
لا أحد يستطيع مجاراة الأطفال وبراءتهم، ولا تخيّل أو إدراك ما قد يخطر ببالهم.


أثناء احتفال عائلة “جوري” المكونة من ستة أفراد بعيد الميلاد الرابع لآخر العنقود، والتي كانت “أم وليد” قد حضّرت فيه لابنتها المدللة الحلويات التي تحبّها، وقدم كلّ فرد من العائلة هديته لجوري في جوّ مليء بالفرح، طلبت جوري من أمّها أن تعلّمها طريقة تحضير الحلويات.

في البداية عبّرت الأم عن رفضها بطريقةٍ دبلوماسيةٍ إلى حدٍّ ما، إلا أن جوري أصرّت على طلبها، فحاولت أم وليد التهرب مجدداً وإلهاء ابنتها بالحفلة دون جدوى، لينتهي بها المطاف إلى تسويف الطلب لليوم التالي.

انتهت الحفلة المتواضعة وخلدت جوري وإخوتها للنوم، باستثناء وليد الذي ذهب للسهر مع أصدقائه، بعد أن حذره أباه ألا يبتعد عن الحارة لأن الوضع “مكركب”، فيما جلس الزوجان يشاهدان الأخبار ويتبادلان أطراف الحديث.

وفي الصباح الباكر استيقظت جوري كعادتها، ولكن هذه المرة كانت متحمسة، فلديها عمل ستقوم به، توجهت إلى أمها فوراً لتنفيذ ما اعتبرته وعداً منها، ألا وهو تعليمها صنع الحلويات، وعادت الأم للتسويف والتأجيل أملاً بأن تنسى ابنتها المدللة طلبها، فهي ما تزال صغيرةً جداً.

بعد تكرار السيناريو لعدة أيام، وتحت ضغط إصرار جوري، استسلمت أمها وقررت تحضير طبق بقلاوة، وقامت بإعداده وجوري إلى جانبها، وفكرت أن تشرح لها ببساطة وسرعة طريقة تحضير القطر، أملاً في أن تتوقف ابنتها عن الطلب، وفي الوقت ذاته تكون قد وفت بوعدها لها. 

لتحضير القطر نضع ثلاث كاسات من السكر مع كأس ونصف من الماء، وعندما يغلي المزيج نضيف ملعقة صغيرة من عصير الليمون، ونتركها مدة عشر دقائق ثم نطفئ الغاز ويكون القطر جاهزاً، قالت أم وليد لابنتها واعدةً إياها إتمام العملية على مراحل قادمة.

في هذه الأثناء كانت المظاهرات تعم أرجاء سوريا، بما فيها الغوطة الشرقية مسقط رأس جوري ومكان سكنها، وكانت قوات الأسد قد اجتاحت مدينة درعا بالدبابات لقمع الاحتجاجات ضد نظام الأسد، بعد حادثة أطفال المدراس المشهورة.

ذهبت أم وليد مع أختها إلى السوق، وتركت جوري مع ابنة خالتها “وفاء” ذات الستة أعوام في المنزل وطلبت منهما ألا تغادرانه، أما الأب فكان مع أولاده “وليد وأغيد وسعيد” في البستان يقطفون بعض الثمار والحشائش.

وبينما كانت جوري تلعب مع وفاء تذكرت ما تعلمته، وبدأت بالتفاخر أمام ابنة خالتها التي تكبرها بعامين بأنها تستطيع تحضير الحلويات، وبالطبع لم تصدّق وفاء الأمر وطلبت من جوري أن تثبت لها ذلك.

في المطبخ أخذت جوري دور أمها، وبدأت بتطبيق وصفة القطر التي علّمتها إياها، وأشعلت الغاز تحت القطر وصعدت مع ابنة خالتها إلى سطح المنزل للعب بالأرجوحة ريثما يجهز القطر، إلا أن اللعب أنساهما أمر الوصفة والمطبخ كلّه، ما أدى لاشتعال النار في المطبخ والغرفة المجاورة له.

هرع الجيران إلى منزل العائلة، وتمكنوا من إنقاذه قبل أن تكمل النار على ما تبقى منه، ووصل أبو وليد وأولاده وبدأ يسأل عن جوري غير آبه بأي شيء آخر بالرغم من فقر حاله، وحمد الله على سلامتها وسلامة وفاء، وانتهى الأمر بعتابٍ لجوري وتحذير لها من إعادة الكرّة.

في اليوم التالي، وفي طريق عودتها للمنزل، شاهدت جوري وأبوها طلاب المدرسة الثانوية المجاورة لروضتها يخرجون بعد انتهاء الدوام بمظاهرةٍ نصرةً لأطفال درعا، يرددون هتافات تطالب بالحرية وبإسقاط النظام، دون أن تعي ما يريدون ولا ما يقولون، نظراً لعمرها ولكونها المرة الأولى التي ترى فيها ذلك المنظر. 

وببراءتها المعتادة ظنّت بأن المظاهرة التي أمامها هي عيد ميلاد، وعندما ضحك والدها بشدة وأخبرها بأنه ليس كذلك، اعتقدت بأنه زفاف وعاد أبو وليد للنفي مجدداً دون أي توضيحٍ إضافيّ.

أجوبة الأب المقتضبة لم ترضِ فضول جوري الذي لم يلبث أن تبددَ عندما بدأ الشبّيحة بإطلاق الرصاص فوق رؤوس المتظاهرين، فحمل الأب ابنته وركض باتجاه المنزل، ووجد زوجته تنتظر أمام الباب، وقد أصابها الهلع عندما سمعت صوت الرصاص، وخرجت لتطمئن على عائلتها، عندما رأتهما احتضنت ابنتها وسألت زوجها فيما إذا كانا بخير.

قابل أبو وليد أسئلة زوجته بالسؤال عن أولادهما، فأجابته بأن وليد في البيت، وسعيد في بيت عمته وقد كلّمته واطمأنت عليه، أما أغيد فلم يعد من مدرسته بعد، وطلبت من زوجها الذهاب لتفقّده.

وبينما كان أبو وليد يحاول التهدئة من روعِ زوجته وطمأنتها، رنّ جرس الهاتف ليثبت صحة حدس الأم، فقد أصيب أغيد برصاص الشبيحة، وتم نقله إلى عيادة خاصة في الحي.

وصل الأب إلى عيادة الطبيب ليجد ابنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، لم يستطع الطبيب فعل شيء له، فالإصابة في الرأس، ولم يجرؤ أصدقاؤه على إسعافه إلى المشفى، خوفاً من الملاحقة الأمنية لهم ولعائلته لاحقاً.

خرجت الجنازة لتشييع الشهيد إلى مثواه الأخير بهدوء، وعلى عجل وبمن حضر من الجيران خوفاً من سقوط شهداء آخرين.

عاد أبو وليد إلى المنزل وجوري وأمها تجهشان بالبكاء، ركضت جوري إلى أبيها واحتضنته، فأبلغها بأن ما شاهدته في الطريق كان زفافاً بالفعل، وأن أخاها هو العريس، ولكنه لم يكن يعلم بذلك مسبقاً.

بعد استشهاد أغيد وحملات الاعتقالات والمداهمات والحريق الذي لحق بجزء من المنزل، قرر أبو وليد أن يغادر الغوطة الشرقية، ويسكن مع والديه في دمشق، خوفاً على بقية أولاده، فالأحداث تتسارع ولا أحد يعلم ما الذي ستؤول إليه الأمور، بينما بقي وليد في الغوطة خوفاً من اقتياده للجيش أو اعتقاله على الهوية. 

تطورت الأمور وانتقلت الثورة للعمل المسلح بعد تكرار حوادث قتل المتظاهرين على يد الشبيحة، ونزل جيش الأسد إلى شوارع المدن والبلدات الثائرة، واستخدمت كافة أنواع الأسلحة، وقصفت المنازل والمشافي والمدارس، ولم يسلم البشر ولا الحجر من بطش آلة الأسد العسكرية، وانضم وليد إلى النقاط الطبية ليساعد الجرحى والمصابين، ليقتل هو الآخر مع ثلاثة من رفاقه إثر استهداف النقطة ببرميلين متفجرين.

كانت عائلة أبو وليد تتابع أخبار الغوطة من دمشق، ويشاهدون الأخبار ويتواصلون مع أقاربهم وجيرانهم، أما جوري الصغيرة فحتى اللحظة لم تستوعب ما يحدث، وكانت كلما رأت منزلاً يحترق تسأل والديها بذات البراءة والعفوية: “هدول متلي ما بيعرفوا يعملوا قطر وعم يحرقوا بيوتون؟”.

يقف الوالدين عاجزين لا يعلمان ما يجيبانها به، إلا أن حرقة قلب أبو وليد وتأييده للثورة منذ بدايتها تجيب على أسئلة ابنته عوضاً عنه بأن أصحاب هذه البيوت ليسوا هم من يحرقونها، وإنما أُحرقت لأنهم رفضوا الظلم، وطالبوا بحقهم بالعيش بحريةٍ وكرامة، تماماً كما هو حال أخويها وليد وأغيد وحال رفاقهم الذين استشهدوا.

سيطرت قوات الأسد على الغوطة الشرقية، وعاد أبو وليد إلى ما تبقى من منزله المدمر، ولم تجد جوري أرجوحتها، ولم تتمكن العائلة من زيارة قبر ولديها، بعد أن طال القصف المقبرة التي احتضنتهما في وقت سابق، واختلطت الشواهد والقبور والعظام. 

في سوريا ذاق ملايين الأطفال ويلات الحرب، لم يكونوا شهود عيان على جرائم الأسد فحسب، بل كانوا من وقعت عليهم هذه الجرائم، وأحصت الأمم المتحدة (بتاريخ ..) عدد الأطفال السوريين الذين قتلوا أو أصيبوا خلال سبع سنوات بسبعة آلاف طفل، في الوقت الذي قالت فيه إن تقارير غير رسمية رجحت أن يكون العدد قد تجاوز الـ20 ألفاً.

بينما أشار التقرير الصادر عن منظمتي “الصحة العالمية” و “هانديكاب” (في تاريخ) إلى أن الأطفال يشكلون ثلث مصابي الأسلحة المتفجرة في سوريا، وأن سوريا تعد الآن أحد أخطر المناطق في العالم بالنسبة للأطفال، أما منظمة “اليونيسيف” فقالت إن مليوني طفل بحاجة لشكل ما من الدعم أو العلاج النفسي، في حين أن الصراع أثر على 5.5 مليون طفل، بعضهم داخل سوريا وآخرون يعيشون في الخارج لاجئين.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*