حين خدعنا نفسنا وقلنا إن الثورة فكرة

زيتون – ياسمين الشام

تروي الاسطورة عن معركة طروادة كيف قام ملكها بريام بعد مقتل بكره هيكتور بالتسلل ليلا إلى خيمة قاتل ابنه أخيلوس ليقبل يده ويطلب منه استرداد جثته ليقيم له جنازة تليق به.    

 سبارتكوس الذي أرسل لروما قائلا: “في يوم من الأيام، سنهاجم مدينتكم الخالدة ولن تبقى خالدة حينذاك، سنحطّم أسوار روما وندخل مجلس شيوخكم وننتزعهم ليقفوا عراة ونحاكمهم كما حاكمونا”.. أصابته طعنة ألقته على الأرض وأعجزته عن النهوض، وظل يقاتل وهو راكع على ركبتيه إلى أن مات وتمزّق جسمه حتى لم يكن من المستطاع أن يتعرّف عليه أحد.

وفي مقولة لشاب في كفربطنا اختار البقاء تحت سلطة النظام الذي صارعه لسنوات نقلته إحدى الصحفيات جاء فيه “إن الثورة فكرة والفكرة لا تموت وأن علينا أن نعيش لنفكر ماذا سنفعل غدا، علينا أن نعترف بأننا قَتلنا بعضنا، ومارسنا كل أصناف ديكتاتورية النظام مع بعضنا نحن أبناء الثورة. الثورة تأكل أبناءها؟! لا.. أبناء الثورة أكلوها”.

أحببت تلك القفلة واسترجعت كل الذكريات التي تؤيدها، تذكرت يوم تنمر علينا رفاق كانوا يشاركونا المظاهرات، وما أن صار لهم أظافر حتى كفرونا، تذكرت كيف انحرفت الرغبة فينا من تغيير النظام إلى صون المصالح الفردية والعائلية، ولا أنسى كيف سارع المتسلقون بتكالبهم على الثورة باعتبارها مطمعا حتى أنهكوها.

أحببت تلك القفلة رغم اقتناعي أن الفكرة يمكن أن تموت وأن الثورة يمكن أن تموت مع موت أنصارها وذلهم، وأن المنتصر الوضيع سيكتب تاريخه بوصفه الفارس النبيل الذي خلص سوريا من مجموعات إرهابية، ولن يبقى ذكر لأي من شهدائنا الذين قضوا في معتقلات النظام وهم يتحدونه أو في جبهات التحرير أو وقفات الرجولة.

أذكر كيف بكى صاحبي “قاسم حماد” وهو يروي لي كيف منعوه من أن يطور عمل منتداه، كان غير مصدق كيف يمكن أن تمتلك مجموعة من المتطرفين حق تقرير مصير مدينة، منعوا مسرحية بحجة وجود فتيات مشاركات، ومنعوا عرضا آخر بحجة الاختلاط، وبلغ بهم الأمر أن رموا قنبلة على باب المنتدى أثناء أحد العروض، ولم تتعاطف معه النخبة الثورية، التي كانت ترى أن الذكاء السياسي يجب أن يداهن هذه المجموعات، فقضى الرجل وحيدا تحت برميل.

ومحمد في مقالته يضع اليد على الجرح حين يعترف بسوئنا ويحملنا مسؤولية ما وصلنا إليه، نعم لقد قتلنا بعضنا، حين يروي أحد قادة الجيش الحر كيف أنزل راكبين اثنين من أحد حافلات نقل الركاب على طريق إثريا فقط لأنهما من محافظة اللاذقية، وكيف قام بإعدامهما أمام بقية الركاب بكل فخر، مؤكدا رغبته بتمزيقهم جميعا، نكون قد انزلقنا إلى درك عدونا وقد قتلنا بعضنا.

حين ينتاب الثائر المسلح ذات مشاعر عناصر الامن سابقا في شوارع مدينته التي تنام وتصحو على قصف الطائرات وتدفع ثمن ثورتها التي مكنته من حمل سلاحه فإننا على طريق موت فكرتنا.

أحببت تلك القفلة رغم عدم قناعتي بها، فما كان مصير سبارتكوس يا محمد وما كان مصير الزنج وما كان مصير قرطاجنة سوى الفناء أمام من ثاروا عليه.

وعلينا الآن بعد خسارتنا أن نعترف بما اقترفته أيادينا وصمتنا وزيفنا، اليوم وبينما يحتفل أتباع الأسد بانتصارهم، علينا أن نجلس لكي نقول ما حاولنا أن نخفيه وأن نكشف ما حاولنا ستره، وبغض النظر عن تدخل القوى الكبرى لصالح النظام إلا أن خسارتنا لاحترامنا أمام أنفسنا وسقوطنا الأخلاقي أمام بعضنا هو ما سحقنا قبل أن تسحقنا الطائرات والكيماوي.

تموت الثورة بموت مناصريها واستسلامهم، ويمكن لأي مجرم أن يقف على أطلال جريمته ليحولها إلى انتصار واضح وليخط تاريخ أمجاده كمأثرة أخلاقية.

كما تموت الثورة حين تفقد أخلاقها، وحين ينحدر حاملو فكرها لدرك من ثاروا عليه، وحيت تتكرر المقارنات ما بين ما فعله النظام وما ارتكبته فصائل في المناطق المحررة سينتصر النظام ذو الأصالة في هذا السياق.

وما يزال البعض يداعب مشاعر السوريين في المناطق المحررة بما يحبون أن يسمعوه ظنا منه أنه يكسب شعبية أوسع دون أن يدري أنه يضعهم على حافة اليأس حين يهوي بهم الواقع.

ما يتم اليوم الحديث عنه حول مصير إدلب من سيناريوهات تفرضها مخاوف الأهالي هناك يكون للخيار العسكري الحظ الأوفر أمام الجبن الأمريكي والاستذئاب الروسي وشهية النظام بعد انتصاره الأخير في الغوطة وشرذمة الفصائل واقتتالها في الداخل، كل هذا يرجح ما ينوي النظام ومن خلفه إيران وروسيا القيام به.

تعودنا على العزاء حتى أجدناه، وما مقولة الثورة فكرة لا يمكن أن تموت إلا وسيلة لمواساة أنفسنا من هذا الانهزام الميداني والذي يقف خلفه انهيار اخلاقي، وجدنا من يبرر لنا وعنا، ويوجد الاعذار لفشلنا، فتمسكنا بتلك الاعذار وحفظناها وبتنا لا نردد سواها، وبالمقابل وجدنا من يقول ما في عقولنا وتخجل منه ألسنتنا، أيدناه ضمناً وأنكرناه علناً، في وقت صار لدينا القدرة على أن نتعايش فيه مع جلادنا وأن نقبل اليد التي ذبحتنا

كل شيء يموت حتى الفكرة، عندما تعدل أو تترجم قد لا تجد الكلمة الاقوى مرادفا لها بنفس القوة والقدرة على التعبير، وبين اللغات الكثيرة التي ترجمت على أرض سوريا فقدت ثورتنا وفكرتنا أصدق معانيها، ولم تمت مرة وحسب بل و نبش جلادنا قبرها مع كل انهزام.

لم يبق في نعش ثورتنا سوى مسمار إدلب، فكيف سنقف لنتدارك ما أضعناه، وهو ما يفرض تغيير استراتيجياتنا ووسائلنا وقادتنا وكل ما ساهم في خسارتنا السابقة، لكي لا تذهب تلك الدماء سدى.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*