سيكون خرابا.. النواب حين يتنبأ

زيتون – رائد رزوق

التقيته في مقهى «الهافانا» بدمشق يشرب البابونج، ويخط على دفتر أمامه كلماته المتناهية في الصغر، محاولا إخفائها عن أعين المتلصصين، عادة اكتسبها من تاريخ ملاحقته.
بلا حماس وبنظرة تفحص باردة يستقبل الغرباء المحبين، وهو الغريب الذي تغنى بغربته، بترحيب أقرب للطرد، وبيده الهزيلة التي حفر بها نفقا ليهرب من سجنه كما يقول، صافحني مرغماً.

مظفر النواب الحاضر أبدا في أدبيات الثورات، المزروع في وجدان المقهورين من شعوب متحفزة للانتفاضات بعد أن أكل عليها الظلم وشرب، لسان حال المغلوبين من أبنائها، محقر الملوك والرؤساء والحكام، ممجد الشهداء، والضائع في سجون الوطن العربي بلا وطن.

وليس غريبا أن تكون أشعاره من أولى الكلمات التي خطت على جدران المدن السورية الثائرة، فالرومانسية الثورية التي عاشها المتظاهرون والنشطاء في السنوات الأولى، لم تجد حروفا تتمثلها أكثر من «مو حزن لكن حزين» و»دم الشهادة ليس يجير»، بعد أن قدم النواب نبوأته عن الخراب القادم كنتيجة حتمية لتاريخ طويل من الظلم والتهميش عاشتها الشعوب لا سيما في سورية.. «سيكون خراباً.. لابد لهذي الأمة من أن تأخذ درساً في التخريب».

في حي الكرخ على الضفاف الغربية لنهر دجلة في بغداد ولد النواب في عام 1934 لعائلة ثرية وأدبية عريقة، درس الآداب في جاحدة قصائدهشجعه ما كان يسمعه من شعر كان يلقيه جده عليه، فقرض أولى أبياته ولم يتجاوز العاشرة.
شيوعي يود لو يضم «علي» إلى حزبه، يهاجم الأسد ويقيم في دمشق، أحدُّ من الشفرة طبعه ورقيق ماؤه، يقتله نصف الدفء، بلغت حدة قصائده أن تحولت لسوط يخاف منه كل متبرئ من حزبه، كما يخشاه كل دكتاتور أو حاكم.
لم يقتصر منع السلطات العربية في أغلبها على دخوله أراضيها وسجنه، بل كانت كتبه من أولى الكتب التي منعت، وربما ما تزال حتى الآن.

صاحب الامتياز الحصري بمفردات الشتائم والفحش والبذاءة، المحفوظة عند أغلب الشعوب العربية، التي لم تجد ما تنتقم به من حكامها أكثر من تلك الكلمات.
لم يسلم حاكم عربي من لسانه وتهكمه فمن ديوث الشام وهدهده الى ملوك النفط الى قاضي بغداد الى ملك السفلس الى حسون الثاني، وله في القمم العربية رأي معروف، تكرره الشعوب عند كل قمة.
بقصائده المنتقدة والصارخة في وجه الظلم والديكتاتوريات العربية، قدم النواب الفكرة للثورة بشكل مبكر، ساهم في تشكيل الرفض لدى أجيال، حتى لم تخلو ذاكرة عربي أكان في اليمين أو في اليسار من كلماته، ومن المؤكد أن ما قاله النواب في سبعينيات القرن الماضي، ساهم في موجة ثورات الربيع العربي.

ولفلسطين موقع المحراب في شعر النواب، فالقومي المتحمس لم يتراجع في حدة تمسكه بتحريرها، وللعمليات الفدائية تأليه خالص لديه، ففي قصيدة «خالد أكر» يقول «انزل عليهم فإنك قرآننا» كما في الانتفاضة «ارمي رب الحجر» كما «القدس عروس عروبتكم».
تنقل النواب بين أغلب عواصم البلدان العربية، ليستقر بشكل نسبي ما بين دمشق وبيروت وطرابلس، لاعناً الفنادق وضياع الوطن..»وآه من العمر خلف الفنادق لا يستريح، أرحني قليلاً فإني بدهري جريح».

النواب الذي لم يتزوج وتاه في أزقة المدن بعيداً عن أمه وبيته، بالغ بالحزن حتى وصل حد الغناء فمن «يا صاح أنا خوك» إلى «عيونك زرازير البراري»، إذ يعلو حزنه في شعر العامية بشكل أكبر، حتى يتحول لنواح ليلي، في قصيدة «البراءة» يصل النواب الى ذروة القسوة، كما يصل منتهى الحزن في «الريل وحمد» و»ما بكيتك» لتتلقفها الموسيقى والأغاني العراقية التي لا ينقصها إلا كلماته.
«فؤادي مملوء بالخمر وبالحزن»، لا رقة أشد مما وصل له النواب في وصف الخمر والحزن، فمن خلال زجاج الكأس يرى الثوار المزيفين، والبواريد الصديقة الخائنة، والرسائل التي استغرقت شهوراً حتى وصلت من أمه، والبغي التي تشبهنا حين يزني القهر بنا، والجوع الكافر، و»رخيوت وحوف»، والوطن الممتد من البحر إلى البحر كسجون متلاصقة.

في دمشق ازداد انطواءً وربما انكساراً، فهوي يقيم في قبضة من تهكم عليه، وربما كان له رثاء فيه، حتى انزوى نهائياً في بيته، يعاقر خمرته بلا ندامى، ويحلم بعودته إلى بغداد، ينتظر أجله كما ينتظره كارهوه وربما محبوه، بعدما جف شعره في وقت هم في أوج حاجتهم إليه.
النواب الذي كره الشهرة رفض أن يخلد ذكره في أفلام سينمائية، لم يصدر عنه سوى كتاب عن دار «قنبر» في لندن بعنوان «الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العربي المناضل مظفر النواب»، وكتابان عنه في دمشق هما «مظفر النواب حياته وشعره» لباقر الحكيم و»مظفر النواب شاعر المعارضة والسياسة» لعبد القادر الحسيني وهاني الخير.
يا طير البرق تأخرتَ
فأنا أوشك أن أغلق باب العمر ورائي
أوشكُ أن أخلع من وسخ الأيام حذائي
يا للوحشة… اسمع!
فوراء محيطات الرعب المسكونة بالغيلان هنالك قلعة صمتٍ
في القلعةِ بئرٌ موحشةٌ كقبورٍ ركِّبنَ على بعضٍ
آخر بئرٍ تفضي بالسرِّ إلى سجنٍ
السجن به قفصٌ
تلتف عليه أغاريدٌ ميتةٌ
و يضم بقايا عصفورٍ مات قبيل ثلاث قرونٍ… تلكم روحي
منذ قرونٍ دفنت روحي
يا للوحشةِ اسمع… تلكم روحي و بكائي
………..
سبحانك ربي..
كل الأشياء رضيت.. سوى الذل
وأن يوضع قلبي في قفص في بيت السلطان
وقنعت بكون نصيبي في الدنيا كنصيب الطير
لكن سبحانك.. حتى الطير لها أوطان
وتعود إليها..
وأنا لا زلت أطير
فهذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر
سجون متلاصقة
سجان يمسك سجان!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*