عنوانه كل بيت.. فريق لقاح سوريا.. “أطفالي الأربعة ماتوا يا عمو، يا ريت ضلوا وتلقحوهم”

زيتون – بشار الخالد

كيف لي يا صغيري أن أقنعك أنه قلم لأوسم إصبعك الصغير به، وليس إبرة، ربما من الأسهل عليّ ومن الأفضل لكلينا أن أخط على أنفك، وأن أرسم لك شارباً، فربما أرسم به البسمة على وجهك ووجوه أصدقائك في الحي، وأُنسيهم وأُنسي نفسي هدير الطائرات وصفير البراميل الذي يرافقنا في معظم الأحيان.

ربما أستطيع طرد خوفك واستمالتك ببالون، وربما تحاول الضحك عليّ فتأخذ البالون ثم تتركني أركض خلفك محاولاً الإمساك بك، قد أدخل في مرحلة طويلة من المفاوضات، من قبل من؟، بالوناً أم نقطتين بين شفتين؟.

قد أجد لي سبيلاً إلى قلبك، بينما لا أجده إلى قلب سواك، فيبكي منذراً بقية أطفال الحي أن اهربوا، لأبدأ بلعبة كنت ألعبها عندما كنت في عمركم، وأركض أنا وأمهاتهم، كلّ منا في اتجاه، لإلقاء القبض على طفل بريء بجرم الطفولة، وكلّ ذلك فقط لأضع نقطتين بين شفتي كل منكم، دون أن تدركوا أنكم بهاتين النقطتين أو الوخزة ستحملون على أكتافكم أحلاماً ومستقبلاً نقياً كنقاء قلوبكم.

في كل لحظة لنا حكاية، ولكل بيت قرعنا بابه ذكرى تقرع فؤادنا، وكل طفل خططنا له شارباً أو وسمنا له إصبعه صورة طُبعت في ذاكرتنا، ارتبطت بمحاولاتنا التي قمنا بها إلى أن وصلنا إليها.
هذا ما كان يدور في ذهن أحد أفراد فريق لقاح سوريا أثناء رحلاتهم في القرى المحيطة قبل البدء بقيامهم بواجبهم في تقديم اللقاحات للأطفال.

فريق لقاح سوريا.. لقحوا أطفالكم لتدوم أحلامهم

بدأ مشروع لقاح سوريا بعد توقف المؤسسات الصحية عن تقديم خدماتها، لا سيما اللقاحات لما لها من أهمية، ولخطورة غيابها، الذي قد يؤدي إلى نهايات بائسة وكارثية على المستوى الصحي والمجتمعي.

غياب اللقاحات بالتحديد كان شبحا مخيفا يخيم على المناطق المحررة، وينبئ بنتائج مستقبلية كارثية لحساسيته وخطورته، ومن هنا بدأت حكاية فريق لقاح سوريا تحت شعار “لقحوا أطفالكم لتدوم أحلامهم”.

مشرف منطقة في فريق لقاح سوريا الطبيب “عروة الخالد” تحدث لزيتون عن نشوء الفريق وأهدافه قائلاً: “نشأ فريق لقاح سوريا في بداية عام 2014، في ذلك الوقت لم تكن لقاحات الأطفال متوفرة، وظهرت عدة حالات إصابة بفيروس شلل الأطفال في مناطق مختلفة من المحافظة، فقام عدد من الأطباء بتشكيل مجموعة عمل، وانضم لهم العديد من المتطوعين، بدأ بعدها الفريق بمحاولات تأمين لقاحات الأطفال عن طريق التواصل مع منظمات المجتمع المدني ومنظمة الصحة العالمية”.
وأضاف “الخالد”: “قام فريق لقاح سوريا بتنفيذ عدة حملات تلقيح بشكل احترافي، وأثبت كفاءة عالية، مما أدى إلى الحصول على جميع اللقاحات الروتينية، وافتتاح مراكز لقاح روتيني ثابتة، تغطي كل محافظة إدلب، وتقدم جميع اللقاحات وطيلة أيام العام”.
تحديات الفريق كانت في تكامل عملية التلقيح وخطورة اقتصارها على منطقة دون أخرى، فالتلقيح حلقة كاملة لا تعطي مفعولها في حال عدم شموليتها، وهو ما فرض جهودا إضافية على الفريق وإدارته، كما فرض أن تكون حملات اللقاح شاملة لكل المناطق بتوقيت واحد، تحسباً لعدم حصول جميع الأطفال على اللقاح، وخصوصاً بعد أن فقدت بطاقات التلقيح لدى الأهالي، ولم يعد هناك إمكانية لحصر لقاح الطفل سابقاً.

التحدي الأخر الذي واجهه فريق لقاح سوريا هو خطورة عدم حصول الأطفال على اللقاح، وكارثية انتشار مرض معدي من الأمراض التي يستهدفها، إضافة إلى العمل تحت ظروف أمنية خطرة، إذ لا تخلو المنطقة من القصف المستمر، والذي قد يهدد حياة العاملين في الفريق للخطر، نتيجة لتواجدهم في الأماكن المكشوفة والأحياء.

كما يرى رئيس مركز لقاح سراقب الطبيب “عبد الله هلال” أن عمليات النزوح كانت من أكثر الصعوبات التي واجهت العمل، موضحاً: “حركة النزوح المستمرة وظهور المخيمات وانتشارها في أماكن عدة، وانتقالها بشكل يومي هربا من العنف، وتغيير سكن الأهالي بشكل دائم في المزارع المحيطة والمتطرفة عن المدن، تطلب جهداً إضافياً وجباراً في حاجتنا للمسح الجغرافي للمناطق والقطاعات، مع متابعة كل التغيرات على الأرض، وتحديث خطة عمل الفرق بشكل مستمر لكي نتمكن من إعادة توزيع الفرق والوصول لجميع الأطفال”.
وأضاف الطبيب هلال: “نحن على وشك إطلاق جولة لقاح جديدة، كان قد تم تأجيلها عدة مرات بسبب الظروف الأمنية، وتعرض المركز للاستهداف المباشر من الطيران الحربي عدة مرات، كان آخرها في 5 شباط الماضي، أسفر عن تدميره بشكل كبير، ما أخرجه عن الخدمة وأفقدنا معظم معدات حفظ اللقاح وحوامله”.

وشهدت المناطق المحررة ازديادا كبيرا ومستمرا من النازحين من المناطق الشرقية لريف حماه ودير الزور، بعد المعارك التي شهدتها مناطقهم، التي تفتقر بالأساس إلى الخدمات الصحية بما فيها اللقاح، الأمر الذي شكل عبئاً إضافياً على الفريق، في محاولته لتغطية جميع الأطفال المتواجدين باللقاح، عن هذا الموضوع قال المشرف على أحد الفرق “أحمد شيخ أحمد”:

“كل طفل يعيش في المناطق المحررة هو هدف لنا، نعاني من ضعف ثقة الأهالي النازحين من المناطق الشرقية، ورغم أن لديهم أطفال تجاوزوا الرابعة من عمرهم، إلا أنهم لم يتلقوا أية لقاحات، وهو ما يشكل خطرا عليهم وحتى على باقي الأطفال الملقحين، وبسبب عدم تعاملهم مع فرق لقاح مسبقا يجدون صعوبة في تقبلنا والثقة في لقاحاتنا، جزء كبير منهم يتخلون عن مخاوفهم بعد رؤية الأهالي المحليين وهم يجلبون أطفالهم للقاح”.
مهمة فرق التلقيح هي في زيارة كل بيت وخيمة ومزرعة، ويجد أعضاء هذه الفرق ترحيباً من كافة الأهالي، الذين يدركون نبل المهمة، وحجم التعب الذي يبذلونه.

المشرف في فريق لقاح سوريا في قرية جوباس “عبد الكريم برغوث” يقول لزيتون: “نشعر بالسعادة عندما نرى علامات الرضا على وجوه الأهالي، ليس كون عملنا إنسانياً فقط، بل لمنح الصغار الحماية الصحية، وتوفيرها لهم في المناطق البعيدة والنائية، وكثير من الأهالي يقدمون المساعدة بإبلاغ جيرانه بقدوم الفريق”.

ويضيف “برغوث”: “تقديم الشاي ودعوتنا للراحة في بيوتهم تمنيات الأطفال بالعمل معنا حين يكبرون، كلها مشاهد تدفعك للمثابرة أكثر في عملك، وقد نطلب المساعدة من فرق أخرى لتغطية المنطقة في حال رصد مخيمات صغيرة جديدة أقيمت أثناء فترة اللقاح”.

يؤكد أعضاء فريق لقاح سوريا السابقون والحاليون، أن هناك لحظات واجهتهم أثناء عملهم، تبقى ساكنةً في ذاكرتهم، يجمعهم إيمانهم بعملهم، وثقتهم بفريقهم الذي يعمل بجد وتفانٍ منقطع النظير، وبتنسيق عالي المستوى، إضافةً لتضافر جهود كل أعضائه، كي يحافظوا على مجتمع خالٍ من الأمراض.
أما أصعب المواقف التي تعرض لها أعضاء فريق لقاح سوريا، بحسب أحد أعضائه، فهو ذاك الباب الذي لن ينسوه أبداً، والمرسوم في أحداقهم أبداً، والذي تمنوا لو أنه بقي موصوداً، يخفي وجع ذلك الأب الذي خرج إليهم، وردّ على طلبهم باكياً: “أطفالي الأربعة ماتوا بقذيفة يا عمو، يا ريت ضلوا وتلقحوهم”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*