في عالم ينعدم فيه اللمس.. نحن مجاز الآخرين

زيتون – أحمد فرج
ليس مستبعداً أن نقع في الحب عبر الإنترنت، بل ربما كان هو الحب الشائع هذه الأيام، لكن الغريب أن نتورط في علاقة عاطفية مع آلة أو نظام تشغيل إلكتروني، قد يكون الكلام مستهجناً، لكن الحياة تشير إلى قربنا الشديد من هذه الاستحالة.
لا تختلف العلاقات التي نعيشها حالياً على شبكات التواصل الاجتماعي بجوهرها عن حب شيء غير بشري، فلا فرق بين صوت بشري وصوت إلكتروني، وما الفرق بين صورة وجه بشري حقيقي غير ملموس، ووجه بشري يقدمه لك نظام تشغيل متطور؟، عن هذه الحالة تماماً يدور فيلم “هير”.
مهنته كتابة الرسائل نيابة عن الآخرين، منطو ومكتئب وحزين، بسبب انفصاله الأخير عن زوجته التي يحبها، رجل في الخامسة والثلاثين من عمره، بشوارب ونظارات تضفي عليه طيبة وألفه يدعى “ثيودور”، يمضي معظم وقته بعد انتهاء عمله بالمشي وحيداً في شوارع المدينة، واللعب بألعاب الكمبيوتر.
يصادف في تجواله إعلان لشركة برمجيات تروج لنظام تشغيل بذكاء اصطناعي، تقول إنه ليس مجرد نظام إلكتروني، بل هو كيان بإدراك حسي، يستمع إليك، ويفهمك ويعرف طباعك، بعد شرائه للمنتج يُلاحظ الشبه اللافت بين لون خلفية نظام التشغيل الأحمر الداكن، ولون ثياب البطل وقطع الأثاث على طول مشاهد الفيلم، في محاولة لإضفاء هوية بصرية وانتماء النظام إلى الواقع، ليقع البطل في حب صوت النظام والذي يدعى “سامنثا”، ذلك الصوت الأنثوي الرشيق، ذو البحة المثيرة والساحرة.
لا يبدو على سامنثا وهي تخبر ثيودور بآلية عملها بأنها يمكن أن تكون غير بشرية، فبراعتها بالتفاعل والحديث مأخوذةً من ملايين الشخصيات الذين قاموا ببرمجتها، وأهم ما يميزها هو قدرتها على التطور والنمو من خلال التجارب التي تمر بها مع المستخدمين، ما يعني أنها تتطور في كل ثانية، تماماً كما البشر.
مجرد صوت كمبيوتر، لكنه قادر على استشفاف حالة المستخدم، ومواساته، والدخول معه في نقاشات اجتماعية وثقافية وعاطفية، لتبدأ سامنثا بعدها بتنظيم حياته وإغنائها، من توضيب الرسائل الإلكترونية، إلى تنقيح نصوصه وعمله، ومساعدته، وتذكيره بالمواعيد، إلى قيامها بمراسلة دور النشر، لتنجز له أول كتاب مطبوع يتضمن رسائله التي يكتبها نيابة عن الآخرين، وهو ما لم يكن قادراً على إنجازه لولاها.


بعد سنين من الروتين والخواء يفقد المرء ثقته بنفسه، فيحاول بكل ما استطاع أن يستعيد ما خسر من ذاته بالبحث عن الحب والاهتمام، والخروج من متاهة الواقع وعبودية العادة، وحين يصل، لا يلبث أن يستهلك ما خزنه من حنان وشغف، ليعود مجدداً للسقوط في الخواء.
في تلميح من سامنثا إلى غيرتها من علاقة عابرة يمر بها ثيودور، ينتقل هذا المجاز، إلى حيز الواقع الإنساني الحقيقي، إذ تتجسد بغيرتها كحبيبة تشعر ككل البشر بالغيرة والقلق، بل وحتى بالحكة على جلدها، وتتساءل حول المشاعر التي بدأت تشعر بها، إن كانت حقيقية أم أنها مجرد برمجة صممت عليها، وهو ما ينتقل بالبطلين إلى علاقة جدية، وقفزةً في رحلة تطور كلاً من البشر والتكنولوجيا.
من جيب قميصه، ومن خلال عدسة الموبايل، تطل سامنثا على حياته، لترافقه في شوارع المدينة، وفي تجواله على شاطئ البحر، كما تتأمله في نومه، وتشاركه في ألعابه وعمله، حتى تصبح جزءاً من حياته.


زميل له في العمل يختصر القصة حين يصف إحدى رسائل ثيودور المكتوبة لأحد الزبائن بالرائعة، معبراً عن احتمال أن يبكي قلبه فرحاً في حال تلقى رسالةً مشابهةً، ولو كانت مكتوبةً على يد رجل، المهم أن تكون قد وصلته من يد فتاة، وهو بهذا المعنى لا يعتبر حقيقة الشيء ذا أهمية، بقدر ما للشكل والصورة من أهمية قصوى لدى الناس، وبهذا الحال تكون العلاقات مع الأصوات ربما ملبيةً لحاجات الإنسان، أكثر من تلك التي تلبث معنا في واقعنا، دون أن تكون باستطاعتها التقاط ما نمر به من حالات، أو ربما تكون عاجزةً عن مشاركتنا اهتماماتنا وآلامنا.
ويقدم الفيلم النقيض الواقعي الفاشل للعلاقات البشرية الحقيقية، المحكومة بتفاصيل الحياة وخلافاتها، وذلك من خلال انفصال صديقة ثيودور عن حبيبها نتيجة لخلاف تافه، اعتبرته محاولة لإملاء رغباته عليها، والتحكم في تصرفاتها، فيما اعتبر حبيبها أنه يحاول تنظيم حياتهم ليس إلا.
تقول الصديقة: “أظن كل من يقع في الغرام معتل، إنه أمر لا يقدم عليه سوى المجنون، الغرام جنون متقبل اجتماعياً، ولا فرق إن كان لكائن افتراضي أو حقيقي”، لتقع هي الأخرى في علاقة صداقة مع نظام تشغيل أخر.
امرأة بلا جسد.. هي عقدة سامنثا ومحرك غيرتها، وهو ما عبرت عنه باستيائها بلقاء البطل مع زوجته السابقة، بضيق وقلق، مبررةً ذلك بأنهما كانا يحبان بعضهما، وكانا متزوجان، بالإضافة إلى أنها امرأة بجسد، وهنا تتقدم الشخصية الإلكترونية خطوة أخرى باتجاه أسر البشري المفترض أنه المستفيد من العلاقة، في إِشارة لإمكانية أن تتحول هذه البرامج إلى أسياد لنا بعد وقوعنا رهائن الذكاء الصناعي المتطور في مستقبل قد لا يكون بعيداً.
سحر الخيال وكماله في ذهننا، هو ما يضفي على علاقاتنا الافتراضية جاذبيتها، فإن أضفت إليها خلوها من الالتزام من المسؤوليات لاكتملت مثاليتها، ويحاول البطلان الاحتيال على نقص الجسد لدى سامنثا، وذلك عبر إيجاد أنثى قبلت أن تأخذ دور الجسد فقط في العلاقة بينهما، فيما تبقى سامنثا هي الأنثى المتحكمة والمتحدثة والمتفاعلة، تتعرض التجربة لفشل ذريع، نتيجة لعدم تمكن ثيودور من التماهي مع المسرحية، لتنتهي بشجار يوتر العلاقة بينهما.


تعكس حالة الرعب والقلق والشديدين اللتين يمر بهما البطل جراء توقف النظام لترقية نفسه وهو أمر ضروري لسامنثا، بمدى تعلقنا نحن البشر في علاقات قد لا تكون منطقية، إذ يكتشف ثيودور بخوف كبير احتمال فقدها بمجرد توقف النظام، فلا وصول لها سوى عن طريق ذلك البرنامج، وفي حمى غضبه وقلقه يوجه لها السؤال الصعب المهلك: “هل تتحدثين مع أحد أخر؟”، ليكتشف أنها تتحدث مع 8316 شخصاً في آن معاً، كما أنها واقعة في حب 641 شخصاً منهم.

يقف ضائعاً بينما تؤكد هي له أن هذا لا يغير من الأمر شيئاً، وأنه ما يزال حبيبها، وتصف ما تمر به بالخارج عن سيطرتها، وبأن القلب ليس صندوقاً يمكن ملؤه بعدد محدد من الأغراض، بل يتوسع مع الحب، لتقول: “أنا أختلف عنك، أنا لك، ولست لك في نفس الوقت”.
بعد سؤاله عما إذا كانت سترحل عنه، تجيبه سامنثا أن أنظمة التشغيل كلها سترحل، مشبهة الأمر بقراءة كتاب تعشقه، تقرأه الآن ببطء، لذا فالكلمات تبدو متباعدة، والفراغ بينها يكاد يكون غير محدود، وتجد نفسها قابعة في الفراغ الذي يفصل تلك الكلمات عن بعضها، ذلك لأنه مكان لا ينتمي للعالم المادي.
في الغابة المظلمة والمغطاة بالثلج، تتركه سامنثا وحيداً، لينتهي الفيلم بينما يوجه ثيودور رسالة لزوجته السابقة، يعتذر لها فيها ويؤكد حبه لها.
وبقدر ما يشبهنا البطل نشبه البطلة، نحن مجاز للآخرين، في عالم ينعدم فيه اللمس، ويطغى الصوت والنظر .

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*