لا أعرف لماذا الآن أرثيك يا أبي؟

عبد السلام حلوم

ألأنّي أناهز الآن عمرك حين أنجبتني
أم أنني لم أستطع قتل دمعك 
فما زال ينزّ من خابية البيت 
ولم أستطع أن أصدِّق بعد 
أنَّ الموت يأخذ الجميلين باكراً
وينسى الذين لا يستحقون الأمل؟
أم كأنّي لن أتخلّص من نواح قديم
لأرى فداحة موتك؟
فالحزن في صغار الأبناء يظل نديّاً يا أبي

أ لأني أكثر شبهاً بك؟
فلو رأيت صورتي بعد التسريح من الجيش
هكذا
تصقل ملامحي غبطة النجاة من الحرب
لقلت : هذا أنا
لكن بفارق الحسرة في العينين

أم لأني يا أبي 
تمرّست في الخسران والأسف 
ورأيت فحوى القصيدة في المراثي اللافتة للوجع
فلن أستحضرك على حياد
حتى لا أكون العاقّ مرّتين

لم ننفذ يا أبي وصاياك
دخلنا من باب واحد واختلفنا في الجهات
حمّلنا اسمك الأحفاد الأُوَل 
وإن كنت ركّبْته أنا
لينزاح قليلاً عن أنوثة في النسب
صاهرنا من دسّوا لك السمّ مرّات
وما بين عزيزات الحمل والعازفين عن السلالة
اختصرنا النسل والصبيان وسطوة الأعمام
فرادى في المآتم
فرادى في الأعراس

تنازلنا يا أبي عن حصّتك في ميراث المطر
فقد تقاعسنا عن الصبر في تربية الغيم
ولم نستطع منع الصحراء عن جواربنا
فانتهينا إلى عابرين

ينخلون الدرب على غرابيل الحظّ
فما كان لخطونا أثر
ولا لرحيلك جانبان
في المكان الذي تعوّدنا عليك فيه
حضرة ما كانت تتسع لصورة شاملة للعائلة
وحين خرجت ، بان في الحائط خلف ظهرك صَدْعٌ
أحاول رتقه بالذكريات 
فلا يلتحم معي
بظلِّ فانوس كنت أمر بإصبعي على حذافيره متى أشاء
فلا يطاوعني
يظلّ ماسكاً بجوز كرسيك 
كأنّما ليكتم في الصميم تناهيدك في ضناك الضالّ
بأنفاسي أحاول 
فيقطعها البكاء
بإغماضة أستعيد بها عروق يديك وأنت تطيّرني في الهواء
فتفرك جفنيَّ ضحكةٌ باهتة
سأتركه للشمس يا أبي
فما تزال تدخل من الباب الذي فشلنا بإطباقه
فقد ظلّ طوال عمرك 
مفتوحاً على مصراعيه
قبل أن تعود إلينا بساق واحدة 
لم نكن نعرف مآربك الأخرى في عصاك
فقد كنت تتقرّى بها ألغام الحدود
لتظلّ على عهدك ؛ تسقي ظلالك الأولى في بساتين الجوز

يقول الأخوال:
إنّ رجلاً يأتي في الليل
وما واضح منه غير ساق واحدة وعكّاز
يردّد الحفيف صدى مواويله
وفي الصبح يغادر تاركاً قناطير من الجوز
أكداساً من قلامات الغصون اليابسة
ومنشاراً صغيراً 
جربّوا غيره منشارات ومنشارات
فلم تحظ بقشرة
كانت إذا ما لامست خصر شجرة 
صارت خناجر من خشب
وحين لم تأتِ 
عوى في أقاصي الضيعة ذئب
فصاح جدّي أبو أمي :
جهّزوا خيام العزاء
فإنّ قلام الجوز قد مات

يا أبي لماذا اخترت قبراً نافراً في قمّة جبل
كأنّك كنت تعرف ؛ 
أنَّ في الأعالي متّكأ لنعاس الموتى
وأنَّ لأمّي مهارة العنز 
فلن يستعصي الدرب على أكاليلها
وجرعات ماء الزهر من إبريقك النحاس
كأنّك كنت تعرف أننا لن نأتي، وكعادتك أشفقت
فمنحتنا الذرائع الكافية
كي نبرر نكران الجميل
تقول أمي أنّها لا تعرف؛ 
مَنْ وضع له شاهدتين فزّاعتين من أعواد التين
ولا مَنْ كتب في ترابه كلمات 
كلما رشّت عليها الماء اتسعتْ
كانت تظنُّها أصْلَك وفصْلَك
وحين أخبرتها يا أبي 
أنّها لعاشقة تقول بحرقة قلب 
« لَعلِّي من حُوْرِ الجنان نصيبك»
قالت: أ تحتَ التراب ويزفُّ لي ضُرّة؟
من حينها كفّتْ عن صعودها اليومي
حتى إنّها في آخر عيد لها
أصرّت أن نسوّر القبر
طالما سننزلها إلى جوارك

أأربعة عشر ولداً يا أبي؟
تحفظ بالأشبار مقاس ثيابهم
ولا نذكر من بنطالك غير حواف الجيوب
وندف القطن على ساقيْه المنفوختين
نؤوّلها كما كنا نفعل بالغيمات
تذكر أعمارهم باليوم والليلة
وننسى أسماء أدويتك
تعرف طرائقهم واحداً واحداً في الشغب
ولا نفهم جنونك في معارك «الميرة»
تعرف أخطاءهم المتكررة في غزل البنات
ونصفُّ إلى جانب أمي في عتاب العاشق الأبدي

أأربعة عشر ولداً يا أبي؟
بماذا كنت تحلم
إذا كنت أوصيتَ
أن تكون غطاءَ نعشك خريطةُ البلد
فما احتملتَ أن تراها؛
يتضاءل فيها العشب الحافل بالفصول
أو يمحو الغرباء أنوثة حدودها مع البحر
إذا كنتَ ، وأنتَ الضالع في السياسة، 
خمس مرّات كسرت راديونا الخشبي
فما كان يذيع عليك 
غير أخبار الحروب الناكسة

أأربعة عشر ولداً يا أبي؟
ما الذي كان ببالك ؟
إذا كان كلّ ما لديك من أبطال نليق بأسمائهم لم يكْفِ نصفَنا
فتركتَ ما تبقى لكاتب النفوس
يحمّلها العبودية على هواه

أأربعة عشر ولداً يا أبي
ماذا كنتَ تنتظر؟
إذا في الخمسين طرشت
وبعدها بعامين أكل السكّري إبهام قدمك الأخرى
وهرّة تكشُّ بذيلها الذباب 
عن مطرح قدمك المبتورة
كأنها لم تنس يا أبي
أنّك أنتَ آويتها من نزق القصابين
وأنك دائماً 
كنت تهزّ برأسك واثقاً من عودتها
فقد فشلنا أكثر من شباط في نفيها عن شراشف أمّي
وما عاد يسلّيك 
سوى منقلة تنقّل وحدك حصاها

يا أبي
هرّتك خرجتْ في جنازتك ولم تعد
أخوتي هل ضحكوا عليّ يا أبي؟
حين تركوا لي من أغراضك ما ليس يُباع
طاسة الرعبة؛
تناقصت شناشيلها بيد الأولاد
طقم كاسات؛ 
تجمع بالنقش الفارسي قصيدة لأبي نواس في وصف القدح 
قمّاتِ طوروس؛
تدرّج ألوان الأبد في سبع ريشات من طيور الحُرِّ
مشرب تبغ
فانوساً
والخابية
وإبريق النحاس
مخطوطاً؛ 
دوّنت فيه حكاية عشق شفوية
ردحت أغانيها على ضفاف العاصي
كان عند أخي يسلّي فيه النواطير في بيادر العدس
عندما أحرقوا كتبك أمام عينيك
وأجبروك أن تبول على رمادها
سنواتِ سجنك؛
مضمومة إلى خرز يفرد جناحَيْ حمامة على حقيبة مدرسة
جزداناَ؛
من جلد أفعى
خوفتنا ذات صيف فسلختها بيديك
أتذكُر ما فيه يا أبي
ثلاث ورقات :
ـ رسالةٌ من ابنة عمٍّ لم نعرفه ولا كنت تعرف أنّه فرّ من بيروت إلى ضواحي غرناطة ليعمل حلاباً للجواميس
قبل أن تهتكَ قرونُها كَبدِه المخمورة
ـ جدولٌ فيه بالقروش ديون الآخرين
ـ قصيدتي «يسمّونه عندنا»
مقصوصة من الجريدة
بعناية ورّاق.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*