ليس للحقيقة وجه أبيض

زيتون – أحمد فرج
حاد المزاج، عصبي، ضيق الأفق وأحمق، تثور ثائرته لأسباب تبدو بسيطة، لكنه يبالغ في تكريرها حتى لتصبح معضلة، لا يقنع بالسلوك الظاهر، بل همه ينصب على ما يكمن خلف هذا السلوك، فهو يرى أن التصرف المكرر نابع عن دافع داخلي أصيل، ويعتبر أن من قصر النظر تقييمه على أنه سلوك عابر.
مغامر مقامر، لا يحترم القواعد، يحب المجازفة حين تشتد الأمور، لا يطيق الحرص ولا النظام، وكأنه يحمل في داخله جينات الفوضى التي تنتكس به ليعود بدائيا متوحشاً كمفترس يفتك بنفسه وبمن حوله كي يخرج غضبه.
يحتقر القوة ويميل للضعفاء، ويؤمن بأن العدل يكمن بالانتصار لهم، ويرى أن المروءة هي أن تحد من طغيان التعسف رغم تعسفه ذاته، فأين تكون السلطة والغلبة تراه في الطرف الآخر، مصارعا ومتحديا لها ومتمردا عليها، ولربما من هنا خرج في مظاهرات السوريين حين كانت ضعيفة وهشة، ومن هنا عافها حين رآها تتحول إلى جموع غفيرة، بعد أن صار لها أظافر تحولت لمخالب، كما كرهها حين أيقن أنها أصبحت مطية للمتكسبين، وبحكم طبعه الملول، فقد كره الروتين المقيت في رتم وهتافات المظاهرات المسائية البليدة.
ذو أفق رحب، فالجمال لديه في الخيال، ذلك الفضاء الرحب الهادئ، حيث يمكن للأشياء أن تكون حيث يجب أن تكون، ولذلك فإنه يسعى بشكل جدي لكي يلغي اللغة، ويعتمد بكثرة في محيطه على الإيحاء الذي يعتبره كافيا للتفاهم وحتى الحوار، أعجبه الشعر لبلاغته، وسحرته الكناية الذكية المختصرة، كره السياسيين الذين يكثرون من الكلام ويكررونه بلا ملل.
تجاوز الخامسة والأربعين لكنه احتفظ بتصابيه ومراهقته، فلا هو حاز على حكمة المشيب ولا على خفة الشباب وزاد الطين بلة حرصه وتمسكه بالطفل الذي فيه، حتى بات مجموعة من المتناقضات، ومع ذلك فهو يفتخر بتصالحه مع نفسه وتقبله للنقد واحترامه للرأي الآخر، إضافة لحبه للفن وتخيله للوحات لم يرسمها بعد، لكنها بقيت تظهر في بحة صوته وغنائه حين يذكر زوربا.


سكنه الصمت ولاذ به، فهو لغة الملائكة وحديث الشجعان، ونبل الضحايا حين يعجز عن التعبير عنهم الكلام، حق المكان بالرهبة، وقيمة الأشياء التي تعلو فوق الزمان.
محدث يرى في القوالب الجاهزة والنصوص والقوانين احتقارا لفهم الناس وتسطيحا لعقولهم، فما المعنى بأن يكرر النص آلاف وملايين المرات، ومنذ صغره كان يجد في التقليد عبودية لا تستقيم مع اختلاف الناس وتنوعهم وقدرتهم على الإبداع.
لم ترقه الزراعة لجريان الوقت بها في حلقة لا تنتهي، مواسم مكررة، وعمل روتيني معتاد، بعكس ما جذبته التجارة التي رأى فيها فرصته في المغامرة والمقامرة والمفاجآت، كما رأى فيها الحرية التي يحب، فلا من محاسب ولا من رقيب ولا من مدير، وقد مارسها بحب وشغف.
له وجه شفوف لا يخفي ما خلفه، مكشوف في انفعالاته، وهو أمر يقلقه ويدفعه إلى الخلو لنفسه خشية الانفضاح، ويزداد قلقه حين يقسو على الآخرين مما يزيد في حدة طباعه وهمجيته، فتكبر كرة الثلج في داخله ويتآكله الندم، ثم ليخبو كشعلة نار وينطفئ كماء آسن في حومة ماء.
ورغم غبائه إلا أنه لا يحب التفاهة، إذ يرى فيها خيار الشخص ذاته، فيما الغباء هو قدر فرض على صاحبه، وهو ما يفرض على الإنسان بحسب رأيه العمل، العمل الذي يرقى بالإنسان إلى الوجود، فلا حياة سوى في البناء، وأن يعيش الإنسان حياته دون أن يملأها ببصماته فهو عين التفاهة، فما الجدوى من وجوده إن لم يزد على ما وجده من آثار من سبقوه.

وفي غمرة بحثه عن الخلاص الأكيد من قيود الآخرين، أيقن أن نجاته من حاجة المقترين هي فعله وعمله وبصمته التي يؤكدها بجهده. 

متلصص بارع يزيد بتلصصه خبرته في تحليل النفس البشرية، ويقارن ما بين المخفي والمعلن، وما بين الأنا والهو، ويسخر من هشاشة الإنسان أمام الناس وتأثير الجمع على الفرد، ولذا فإنه من هنا يكفر بكل ما يمليه عليه القطيع، وينفرد عن السرب إراديا رغبة في الخروج لا رغبة في التمييز، ويفضل أن يكون شاة منفردة يأكلها الذئب، على أن يكون غزالا في قطيع آمن.
يجل الكرم لكنه يعتبر نفسه شحيح بخيل، لأن الكرم لديه يكمن بالخلق الدمث والهدوء والاتزان والتروي، بعكس صفاته المضطربة، التي لام نفسه عليها مرارا، محاولاً تهذيبها تكرارا لكن دون جدوى، حتى قنع بشخصه وقبله.
هو أنا، وربما كان كل واحد منا، وربما كنا كلنا، نملك نصفنا الملائكي والآخر المظلم، هو ثنائية البشر، وقدرتهم الخارقة على الاختيار، هو ما يختصر عبقرية الإنسان ووضاعته.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*