يوميات نازح

زيتون – أحمد فرج
من لم يجرب النزوح لا يعرف الانتظار، انتظار لخبر غير متوقع ينتشلك مما أنت فيه، ويعيد إليك رفاهية الروتين، انتظار العودة، لكن الانتظار يحتاج إلى الصبر، والصبر مر، والنزوح يعني الاشتياق، الشوق لأماكنك الأليفة، والشوق إلى فنجان قهوتك وللوجوه التي تحبها، ولصباحاتك الهادئة الهانئة.

 
بعد ليلة متعبة من هواء الشتاء البارد، وانعدام الدفء، لم يتفاجأ بوجه زوجته وقد بدا عليه الضيق “هذه ليست حالة، الوضع لا يحتمل، هذه الحياة لا أستطيع أن أتحملها” ذلك بعد أن أيقظهم صوت شجار في بيت قريب، وأصوات سيارات وباعة متجولين.
صباح الخير.. تحية لم تعد تليق بصباحاتهم، يمكن لمفردات أخرى أن تعبر أكثر، مؤلم أن تستجدي صنبور المياه ولا يتدفق ذلك الرائع، تذكر أن الماء قد نفذ البارحة، وأنه لا يملك ثمنها، أصوات القصف في هذا اليوم مبكرة وسيارته التي تحتاج إلى بنزين وإصلاح رماها بعيداً لكي ينسى ألمها، لكن كيف سيصل إلى مكان عمله، الذي أقفر من بضاعته وملأه الغبار.
أزعجه طعم قهوته الخفيفة، لم يجرؤ على سؤالها لِمَ لم تكثر البن، لكنه خمن السبب، هي أيضاً تحبها كثيرة البن مثله، ونفاذ البن أمر أكيد في هذه اللوحة، تذكر قصة الضحك في آخر الليل، حين يعود البطل مشتاقاً لأطفاله ليجدهم قد ناموا من شدة البرد، وحين تقدم زوجته له طعامه الذي يحب “المجدرة” يتفاجأ بخلوها من زيت الزيتون، وحتى كأس الشاي لا تحتوي على السكر، وهو الذي أمضى ليلته يلاحق العمال، وهم يهدرون كميات هائلة من السكر، ليعلوا ضحكه بشكل هيستيري موجع.
غص بحنقه ورمى بنظره إلى البعيد، شارداً يفكر فيما آل إليه وضعهم وما سيؤول إليه، في الطريق التقاه صديقه الذي فصل من عمله منذ أيام بقرار تعسفي، يطرح أفكاراً مجنونة حول مشاريع عمل خرافية، آلمه عدم قدرته على المجاملة أكثر مما آلمته نظرة القلق في عينيه.
تذكر ما أوصته به طفلته “حلوى ومأكولات”، قرر أن يرمي كل شيء وراءه كي يستطيع أن ينجز شيئاً، وحين حاول أن يسترخي بـ “ضرب متة” قال له: “البائع لا تتعب نفسك، مقطوعة منذ أيام” لم يصدق ذلك، وقال في نفسه ليست سوى عشبة سخيفة لا أحد يشربها.
لم يعد يرى ضوءاً في آخر النفق، ولم يعد يقنع أن الشر ليس أصيلاً في الإنسان، في المساء قال لرفاقه يحثهم على الكتابة:
“اكتبوا يا أعزائي، اكتبوا دموعكم وأحلامكم على الورق، اكتبوا حتى لا تموتوا، أو اكتبوا شيئاً نقرأه لكم بعد موتكم، أعطونا عبارات المديح والرثاء التي سنكتبها لكم على الجدران، اختاروا لون أكفانكم فالأبيض ليس خياراً الآن، جربوا مقاسات نعوشكم، وادفعوا أجر حفار القبور سلفاً، فالرجل لديه أطفال كذلك يأكلون، أخبرونا عن أنفسكم حتى نبكي عليكم بصدق”.

شاشة التلفاز تفيض بالجثث والدموع ووجوه الأطفال الراعفة بالخوف، آلاف النازحين المتعبين، يبحث عن طفلته وعن وجهه بينهم، يحمد الله في سره أن والدته قد توفت قبل أن تشهد هذا الذل.
يشعر بحاجته إلى الهواء، لن يطول الأمر، يعود ليقنع نفسه، لكن حينها تمر من أمامه سيارات فارهة بوجوه ملتحية غريبة، رغم معرفته ببعض سائقيها.. يرغي ويزبد ويلعن ويشتم، فلن تحصل طفلته على الحلوى أبداً.
لا يدري لماذا يتذكر وجه طفلة كانت أول من أحب، كانت تجلس على درج بيتها حين يمر صباحاً ومن خلف السور الحديدي، كان يبطئ خطواته ليتأمل جلستها الملائكية فيما هي غارقة في قراءة كتبها، كان يدرك حين يراها أن يومه سيكون هانئاً.
يشعل سيجارته ويدمدم لحناً حزيناً ويذوي كالجبان، المشي في الشارع خطر لكنه الممر الوحيد، وأن تحلم يعني أن تثق بالمستقبل، وهذا شيء غبي، وعلى طريق آخر، خيام منثورة تحت الشجر، تشبه الصبر وأكوام الملح في حالة انتظار.. انتظار شيء ما.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*