ما بين بيتي في اللاذقية وقريتي في إدلب حدود وأسلاك شائكة

خاص زيتون
لا تأخذوا شيئاً.. أتركوا هذا ودعوا ذاك.. سيكتشف أمرنا إن أخذناها جميعها.. الأهم فالمهم، لن نحتاج اللباس الشتوي سنعود قبل أن يعود الشتاء.. «راجعين».

خمسة أعوام مرت، ولم تمح من ذاكرة أم محمد كلمات زوجها قبل رحلتهم الأخيرة من منزلهم في اللاذقية.

بتنهيدة تبدأ أم محمد حكايتها: «كم أعشق ذاك المنزل، وكم شعرت بسعادة غامرة عندما انتقلت للعيش فيه قبل عشر سنوات، كان قصراً بالنسبة لي، فقد تخلصنا من عبء الإيجار».
وتردف: «يقولون إن مسقط رأس الإنسان هو المكان الذي يحن إليه، إذا ما امتزج بذكريات جميلة عن هذا المكان ومن كانوا يعيشون فيه وحوله من الناس، فاللاذقية بهذا المعنى هي مسقط رأسي، ففيها عشت لحظاتي وذكرياتي الجميلة، وفيها رسمت مستقبل عائلتي، وفيها ترعرع أطفالي وفيها من أحب».

«في ذلك اليوم قبل ان نخرج من منزلنا المطل على البحر، بينما كان زوجي يتصبب عرقاً خوفاً من التوترات والاشتباكات كنت أنا أتأمل جدران المنزل وأثاثه وقطعه التي جمعتها قطعة قطعة، أغرق في زواياه التي أحفظها كما أحفظ اسمي، حملتُ همومي واتجهت إلى شرفتي المطلة على البحر، وهناك كنت أحاول اختزان ذلك المنظر للمرة الأخيرة، على هذه الشرفة كنت أجلس أنا وجاراتي نحتسي القهوة، ونتشارك الهموم، نتناقل الأخبار، ونقيّم وضع الثورة، كنا أشبه بالمحللين السياسيين».

وتتابع أم محمد بنبرة مرتفعة هذه المرة وكأنها تعزي نفسها: «نعم تركنا المنزل وكل شيء خلفنا وحملنا كرامتنا وانطلقنا إلى مدينتي كفرنبل، فكيف يمكن أن نسكت عن الظلم وقتل الأبرياء»، في إشارة منها إلى انشقاق زوجها أبو محمد الذي كان جندياً يخدم في المشفى العسكري باللاذقية، وفي صيف 2012، أخذ قرار الالتحاق بصفوف المعارضة في ريف إدلب.

يستذكر أبو محمد كيف خرج من حي الرمل بخطة ساعده فيها صديقه رياض بقوله:

«ببزتي العسكرية وبرفقة صديقي رياض كنت مصراً على إخراج عائلتي من حي الرمل الجنوبي التي كانت تعتبر لي أولويةً قصوى، لاسيما وأن الحي محاصر بأربعة حواجز أمنية تتحكم بحركة الداخلين والخارجين إليه، وكان خروج المدنيين من الحي ممنوعاً في تلك الفترة».

ويعرف حي الرمل الجنوبي في اللاذقية بمعارضته لنظام الأسد، وقد شهد عدة تظاهرات في بداية انطلاق الثورة ليتم فيما بعد محاصرة الحي وقصفه بالبارجات العسكرية عن طريق البحر تمهيدا لاقتحامه وبالفعل تم اقتحامه من قبل جيش نظام الأسد في شهر آب من عام 2011.

ويمضي أبو محمد برواية تفاصيل عملية إخراجه لعائلته قائلاً:
«دخلت الحي بسيارة إسعاف تابعة للجيش، استعرتها من المشفى لمدة ساعتين، وصلت إلى المنزل بعد عشرين دقيقة، حيث كانت عائلتي بانتظاري، أخذنا ما يمكن أخذه واتجهنا إلى المخرج الشرقي للحي، وفي الطريق أوصاني رياض بوجهه المتعرق أن أترك الحديث له على الحاجز مبرراً ذلك بعصبيتي وسرعة انفعالي، وافقته بإيماءة من رأسي ولدى وصولنا الى الحاجز سألنا الضابط المسؤول عن وجهتنا، فأجاب رياض بسرعة أننا نقصد إلى حي الزراعة «أحد الأحياء المعروفة بموالاتها للأسد». 
«سمح لنا بالخروج وكيف له أن يمنعنا ونحن زملاء.. وما أدراه أننا ذاهبون إلى إدلب وليس إلى الزراعة، الذي يكلف المنزل فيه أموالا كثيرة، ومن أين له أن يعلم، فهو مثلي عنصر في الجيش، وبالتأكيد يعيش في الأحياء المعدمة والفقيرة، بينما يعيش المقربون من نظام الأسد وطائفته في أحياء مشبعة بكل أنواع الرفاهية».

خارج الحي كانت بانتظارهم سيارة ستوصلهم إلى إدلب، ودع أبو محمد عائلته وانطلق إلى مقر عمله، وفي اليوم التالي كانت مجموعة من ثوار اللاذقية بانتظاره في قرية «الحفة»، التي تبعد حوالي 27 كيلو مترا عن مركز محافظة اللاذقية، ليبدأ رحلة استمرت ثلاثة أيام بين الجبال، رغم أن الطريق الرئيسي لا يستغرق أكثر من ساعتين ونصف، لكن كيف له أن يقطعه مع انتشار أكثر من خمسين حاجز للجيش على طول الطريق.

«رحلة الانشقاق» كما يسميها أبو محمد التي عبر بها جميع القرى الجبلية الممتدة ما بين اللاذقية وريف إدلب، التقى خلالها بجاره أبو علاء في قرية «عين لاروز» مصادفة ليخبره بعد عناق أنه هو أيضاً انشق عن الجيش.

بعد ثلاثة أيام وصل أبو محمد إلى مدينته «كفرنبل» المليئة بحواجز الجيش، التي منعته من رؤية عائلته في الأيام الأولى، لاسيما وأن منزله كان مجاوراً للحواجز، ليلتقى بعائلته بعد شهر، حين تم تحرير المدينة على يد الجيش الحر في 10 آب من العام 2012.

شارك أبو محمد في معركة تحرير المدينة، وهو يعيش الآن على أمل أن تعود سوريا كما كانت عليه لكي يعود الى منزله، فيما تشتاق أم محمد لجاراتها اللواتي بقين هناك، وإلى حديث صديقتها «أم عيسى» التي توفي زوجها تحت التعذيب في أحد سجون النظام بتهمة تهريب الأدوية للثوار في اللاذقية.

وما يزال الزوجان يتساءلان كحال ملايين السوريين الذين هجروا مرغمين عن بيوتهم، عن امكانية العودة إلى هناك يوما، ورغم أنهم مواطنون سوريون ولكن هل يحق لهم الذهاب إلى حلب أو دمشق أو اللاذقية مثلا، لقد أضحت كل محافظة دولة، وكل قرية ولاية مستقلة عن الأخرى وتحت سلطة مختلفة.

بعصبيته المعروفة يعبر أبو محمد عن قناعاته التي يبدو أنه مؤمن بها بشكل مطلق:
«إن الأوطان لا تقوم بألعاب السياسة والحرب، وإنما تقام الأوطان برغبة الناس في العيش مع بعضهم ضمن مجتمعات ملتحمة، وإذا استمرت حملات تمزيق المجتمع وتغذية شبح الطائفية كما يجري الآن، فلن تمر علينا سنوات معدودة حتى نجد البلاد منقسمة إلى دويلات وطوائف لا تجتمع على شي».

«تركت جيش الأسد نصرة للحرية والحق، أملاً بسوريا جديدة، تحترم الجميع، ولم أغادر منزلي لأعيش ضمن دويلات وحدود مصطنعة، غادرته وكلي ثقة بأن أعود إليه، لكني لم أعد حتى الآن».

«ليس ما أقوله شعراً، فلم ننادي بالطائفية ولا بالتقسيم، كل ما طلبناه هو العيش بكرامة، لكن الأصوات القبيحة قد تعلوا في أوقات الحروب، وعلى ما يبدو أن المستجيبين كثر».

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*