بين الحقيقة والضباب

زيتون – سحر الأحمد
ذات صدفة قالت لي امرأة خاضت حروباً ضروساً مع الحياة بعد أن اقتربت مني حتى خلتها ستأخذ مكان خالد في حضني وهمست في أذني بعد أن التقطت بعفوية أمومية هُيامي بالقادم الجديد: 
“لا تحبيه أكثر من حبك لنفسك ولا تتولعي به ولا تجعليه يتولع بكِ إن الله يغار، بل اتركيه للحياة، يقال: أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم ولكن ليس منكم مع أنهم يعيشون معكم”.
أم خالد امرأة طموحة ومتفائلة وتحب الحياة لأن فيها خالد.
هذه الليلة بالذات لا تعرف أم خالد ما أرق ذاكرتها، وكأنها دعت ذكرياتها على مائدة وجعها، وبينما تتساقط دموعها كالجمرات على خدودها بدأت أم خالد تروي لجدران غرفتها مشاعر طالما أحستها ولم تبح لأحد بها.
قالت: أفتح عيني قبل أن يفتح عينيه ويبدأ بالتحرك والمطالبة، أتأمل وجهاً أبيضاً يلمع مثل نهار صيفي رطب، لطالما تسألت وأنا أطيل النظر إلى هذه اللمعة هل هاتان العينان لي؟ وهاتان الوجنتان.. والجبين والأنف لي؟، هذا الوجه لي بل هذا الجسد كله لي. 
في الموروث الشعبي المصري يرمز له بـ “قطعة لحمة حمرا”، وباعتبار الحياة منحتني شرف الأمومة بعد تعب تسعة أشهر، واقترابي على مفارقة الحياة بينما كنت أمنحه إياها، حُسم الأمر إذاً هذا الكائن البشري الصغير كله لي.
مالي أجود عليه بانتمائه لي ولا تربطني به سوى حالات من الغثيان والأرق والقلق، وركلات مؤلمة وفيض من مغص حتى كاد أن يُجهز على حياتي التي أعيشها بكل الحب.
يقال: “ما تتعب من أجله تحبه”، وقطعة اللحم الحمرا حتى رأت النور كدت أنا أفقد النور، تُرى هل أحبه لأني تعبت به حتى أصبح من أبناء الحياة..؟ أم لأن قُيّض لي أن أكون أمه..؟
مرت شهور وكبر رصيدنا بالتفاصيل الكثيرة أنا وخالد، والده توفي قبل عدة أشهر من ولادته، ولم يفرح بالناس وهم ينادونه أبا خالد، أنا وهو فقط لا يشاركني به أحد، كما لم أقبل الزواج من رجل آخر خوفا عليه من الضيم.
في الغرفة المجاورة كان خالد يعيد شريط أمنيات أمه، فلم يجد غير أمنية واحدة وهي أن تراه عريساً، فلم تكن تفوت فرصة إلا وتعرض عليه إحداهن وتتمناها زوجة له، في الوقت الذي كان يرفض هو بشدة هذا المشروع، لأنه اتخذ قراراً بينه وبين نفسه أن لا تشارك أمه به أيّة امرأة أخرى.
ما بال هذه الليلة لا تريد أن تنتهي؟، قال خالد في سره، وأخيراً قرر أن يستسلم للنوم بعد أن وصل لقرار أثلج صدره، وجعله فرحاً رغم الضباب الذي لف حياته فجأةً.
في الصباح الباكر دخل على أمه وقال لها: أحزري ما سيكون؟
أم خالد والألم يعصر في معدتها: ماذا يا بني؟ 
خالد: قررت أن أتزوج وأملأ لك بيتنا بالأولاد، ألم تتمني ذلك كل الوقت؟
بالأمس كان خالد قد اصطحب أمه لتنظير معدتها بعد أن فشلت أدوية الأطباء بإسكات آلامها، لم يخطر بباله ما سيقوله له الطبيب عندما ناداه وافتتح كلامه بمقدمة قلما يضيّع الأطباء وقتهم بها: أنت ابنها صحيح؟ 
رد خالد بسرعة: نعم يا دكتور. 
– ومن غيرك لها من الأولاد؟
– أنا وحيد أمي يا دكتور.
خالد الشاب الثلاثيني البسيط، تبدو عليه علامات العافية وتعب السنين معاً، عندما تراه للوهلة الأولى تعرف أنه مهني ولم ينل نصيبه من التعليم، كان ممشوق القامة ذو بنية قوية ويدان مكتنزتان ومشققتان، ورغم الإعياء الواضح على وجهه إلا أنه مازال يحمل مسحة من الوسامة في ملامحه.
– أين والدك؟
– متوفي منذ زمن بعيد.
– رحل منذ زمن بعيد يعني تركها شابة صغيرة! 
– صحيح يا دكتور فقد رهنت أمي شبابها وحياتها للعناية بتربيتي وقطعت وعداَ على نفسها أن أكون أنا كل حياتها.
– اسمع يا بني، يؤسفني أن أخبرك بنتائج أمك الطبية التي تقول إنها لن تبقى معك أكثر من ستة أشهر فقط، لأن المرض أكل معدتها وامتد إلى أجهزتها وأعضائها الحيوية المحيطة كلها، لتكن تلك الأشهر القادمة دافئة ومستقرة لوالدتك، وأعانكما الله على القادم من الأيام، لكن هذا لا يمنع من بدء العلاج وتناول الأدوية بانتظام.
أحسّ خالد بقنبلة قد تفجرت في رأسه، فتطاير دماغه بكل أنحاء الغرفة، لملم الشاب أفكاره وباقي أجزاء جسده وخرج لأمه مبتسماً مداعباً إياها بكلماته التي اعتاد أن يضحكها بها، مقنعا إياها بأن نتيجة الفحص والتحاليل والتنظير هي قرحة، ولكنها كبيرة قليلاً وستزول بعد الانتظام على العلاج.
– لا تبحثي كثيراً يا أمي، أول إنسانة سيقع اختيارك عليها ستكون مناسبةً لي، وإن حصل نصيب سأقول لها أمي تريدك إذاً أنا أريدك، وإن وافقت ستدخل بيتنا لتسعدك أنت أولاً يا أمي.
غيرت أم خالد وضعيتها من التمدد إلى الجلوس وانهالت عليه قبلاً وهي تزغرد وتحولت في دقائق من امرأة موجوعة ومنهكة إلى امرأة ملؤها الحيوية والفرح، غادرت سريرها وهي تقول: من اليوم سأعاود رحلة البحث عن بنت الحلال.
مرت الشهور وأم خالد ملتزمة بعلاجها لأنها تريد أن تكون قوية، وتُتَمِّم إجراءات حفلة زواج خالد من ابنة عمه التي وافقت بكل رضى حتى لو أن خالد سيتزوجها لإرضاء أمه، وهي التي أحبته منذ الصغر دون أن تبوح بذلك الحب لأحد.
في حفلة الزفاف كانت أم خالد تبرق مثل أكبر نجم في السماء، كانت تزهو بين الحاضرات، وكأنها نسيت أن تجلب وجعها إلى العرس.
مضت شهور أخرى وقاربت العروس أن تضع مولودها الأول، بينما أم خالد منهمكة بتجهيز البيت للحفيد الأول.
ومرَّ عام وأم خالد بكامل حيويتها.
أخبر خالد الطبيب بأن أمه ما تزال تتمتع بالحياة، وأنه فرح بها، وما كان سيرجع لعنده لولا ذلك الوسواس الذي يعبث بعقله ويحرمه من لذة الحياة التي يتقاسمها مع أمه وزوجته وولده.
طلب الطبيب إعادة التنظير والتحاليل مرة أخرى، اصطحب خالد والدته إلى المخبر ورجع بالنتائج إلى الطبيب الذي بدا مذهولاً وهو يقرأ النتائج.
– كل التحاليل سليمة، كل الأجهزة الحيوية سليمة!، لا وجود لأي مرض خبيث، حبها لك جعلها تتمسك بالحياة دون أن تدري، مبروك لك الحياة الجديدة لأمك يا خالد.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*