محمد صالح الشمروخي.. كيف هي السماء؟

لعل العبارة التي كتبت على أحد جدران سراقب الفرعية والمنسية “محمد صالح الشمروخي.. كيف هي السماء” تختصر علاقة الشمروخي ابن الخامسة والعشرين عاما بأهل مدينته سراقب ونظرتهم إليه، كما وتوحي تلك الكلمات بهالة التقدير التي يكنها الشارع الثائر لشهيد عاش ثورته، وقضى وهو نقي على مبادئها.

هادئ رزين، ذو أدب وخلق وذكاء، ونظرة عميقة وبعيدة للثورة التي آمن بها سلمية وعادلة ومحقة، وهي ما جعلت منه اسماً يصعب نسيانه في السنوات اللاحقة المليئة بالفوضى.

تقول معلمته في المرحلة الابتدائية: إنه لم يكن طفلا عادياً، فقد حاز فضلاً عن عينين بنيتين واسعتين، فصاحة اللسان، وملكة اللغة، وهو ما برز فيما بعد بهتافاته السلمية في الثورة، جامعاً حوله الصغار من أبناء الحي الذين أحبوه لرقته ولطافته، معلماً لهم تفضيل الحق ومحاربة الظلم مهما بلغت كلفته.

ولد محمد صالح الشمروخي في مدينة سراقب في 14 أيار 1987، دفعه ميله للشعر لدراسة اللغة العربية في كلية الآداب في جامعة حلب، وشارك في أولى المظاهرات التي اندلعت في سورية، ورغم كراهيته المعلنة للسلاح ورفضه الصريح لتسلح الثورة إلا أن ذلك لم يمنع النظام السوري من وضع اسمه على قائمة المطلوبين في وقت مبكر، وفي الشهور الأولى للثورة.

كان يوم الثامن والعشرين من آذار 2012 يوما حاراً، حين عثر الأهالي على جثة محمد مرمية في إحدى المقابر، وقد شوهها التعذيب الذي تعرض له خلال أيام قليلة من اعتقال قوات النظام له بعد اقتحامهم مدينة سراقب قبل ثلاثة أيام في 25 من الشهر نفسه.

تروي والدة محمد التي ما تزال تعيش حالة الفقد الشديد وكأن ابنها قد استشهد للتو، إنها حين كانت تمسح جسد ابنها النحيل بعدما جلبوه لها، وجدت وجهه قد تشوّه كما كُسرت  يده مضيفة: “رفض محمد مغادرة سراقب كما فعل معظم شبان المدينة الذين خرجوا في ذلك اليوم خوفاً من الاعتقال، مجيباً على نصيحتي بالخروج بأنه لا يستطيع ترك مدينته مهما كانت الأسباب”.

وتضيف الأم الثكلى: “بعد دخول عدد من عناصر قوات النظام منزلنا، التجأ محمد إلى منزل جيران لنا فيه حديقة واسعة وأشجار وأعشاب طويلة مكنته من التواري بينها، وبعد تفتيش منزل الجيران ومغادرتهم، جمع الجنود عدداً من شباب الحي ووضعوهم على أحد الجدران مهددين بإطلاق الرصاص عليهم”.

تكمل أم محمد قصة استشهاد ابنها: “خاف محمد على شباب حارته وأراد أن يلقي نظرة عليهم، فخرج من مخبئه وعندها رآه الجنود فاعتقلوه واصطحبوه إلى أحد منازل الحي الذي حولوه لثكنة عسكرية لهم يجمعون فيها المعتقلين”.

بعد أن عرفوا أنه أحد المطلوبين لهم لمشاركته بالمظاهرات عذبوه بشدة، وكان أهالي الحي يسمعون صوته، وهو يرفض تأليه بشار، مصراً على وحدة الخالق، ليستشهد بعد ثلاثة أيام”.

وتردف: “أذكر أنه زاد قلقي في ذلك اليوم، إذ لم أكن قادرة على المكوث بمكان، وأشعر أني أكاد أختنق، حين نادى الجيران علي واصطحبوني إلى منزل شقيقي، أخبروني هناك أنهم وجدوا جثة محمد ملقاة في المقبرة”.

كانت رجله مكسورة والآثار واضحة على جسمه، وتدل على وحشية تعذيبهم لهم، لم يتحمل بين أيديهم سوى ثلاثة أيام ليفارق الحياة.

تغرق الأم بالبكاء وهي تردد: “كان وجهه مشوهاً جداً، هذا الشاب الجميل لم يكن يستحق ذلك أبداً لقد كان جميلاً ووديعاً، ولا يحب العنف والظلم”.

لم تجد الأم ما يخفي توترها سوى دمية صغيرة تحركها بين يديها، هي لطفلة صغيرة تجلس بجوارها قالت: إنها ابنة صديقه التي أحبها كثيراً “ها قد صار لديهم أولاد بينما هو انتهت حياته بأبشع طرق القتل”.

كان محمد متحمساً لاستكمال تعليمه، له شخصية قوية وجريئة مع ثقة بالنفس، يمتلك موهبة قيادية منذ صغره، فلم يكن يخاف أن يتحدث على مكروفون المدرسة بكل طلاقة.

لم يحتمل الوالدان غيابه، ولم يستطيعا أن يسدا النقص في حياتهما، كما عجزا عن النظر في عيون بعضهما تجنباً للبكاء، ورغم محاولة والده المكابرة على جرحه إلا أنه توفي بعد عام ونصف كمداً وحزناً.

ما زالت أم محمد تحتفظ بأشيائه البسيطة: كتبه، دفاتره، كنزته الصوفية المنسوجة بألوان علم الثورة، صندوق ذكرياته المحبب إليه، كما ما تزال تراه في زوايا المنزل يقرأ ويضحك، تضع صورته على برامج التواصل في هاتفها النقال، كرهت المنزل وغادرته لفترة طويلة بعد عجزها عن البقاء فيه بدونه.

وضعت أم محمد في نهاية حديثها يدها على رأس الطفلة الصغيرة بجوارها وغطت عينيها بيدها الأخرى وتوقفت عن الكلام.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*