كانوا يتسلون بتعذيبه.. الشهيد أدهم غازي مرشان

أن تأتيك الطعنة من الخلف أو أن تكون الطعنة من عدو أو من غريب أو منافس، فهو أمر طبيعي، أما أن يكون من طعنك ممن تعدهم أقرب الناس إليك، وتكون الطعنة سبباً باعتقالك ومن ثم موتك، وليس أي موت، الموت تحت التعذيب في مسالخ النظام، فهو ما لم يكن مألوفاً قبل عهد الأسد.

من داخل قاعة المحاضرات في كلية الهندسة بجامعة تشرين، اعتقلته دورية تابعة لفرع أمن الدولة في 21 شباط عام 2012، والسبب تقرير استهدفه هو وابن خالته، كتبه أحد مخبري النظام المقربين من العائلة، أدهم وابن خالته محمد مؤمِنَانِ بالثورة منذ لحظتها الأولى، وشاركا في مظاهراتها منذ بدايتها حتى اعتقالهما.

“أدهم غازي مرشان” من مواليد 1990،  تربى في منزله بين سبعة إخوة، تميز عنهم بنشاطه وعشقه للعلم والدراسة، إلى جانب الرياضة، وحبه لتكوين الصداقات، كان قوي البنية ورياضياً، ومدلل العائلة، التي ما زالت تحتفظ بأركيلته التي كان يحبها أيضاً.

أينما نظرت في منزله، ترى صور أدهم موزعةً على جدرانه، أما صورته الأجمل فهي تلك المظللة بقلم الرصاص، والملصقة على باب الخزانة، وكانت رسمتها جارة له. 

الاعتقال والاستشهاد

بين فخر الأب بولده، ودموع الأم، كانت الذكريات المؤلمة تستعاد في بيت ما زال طيف الغائب حاضراً فيه، الغائب الذي اعتقله فرع أمن الدولة من قاعة المحاضرات في جامعة تشرين في 21 شباط عام 2012.

يقول “غازي مرشان” والد الشهيد أدهم: “فور اعتقاله ذهبت إلى اللاذقية، وبدأت بالسؤال عنه ومحاولة الوصول إليه، فأخبروني أنه نقل إلى صحنايا، ولكنني لم أعثر عليه، وفي بداية عام 2013 قيل لنا إنه في صيدنايا، فتوجهت أمه وأخته إلى دمشق، ولكنهما لم تصلا إلى نتيجة أيضاً، وانقطعت أخباره عنا مدة طويلة، ولم نستطع الذهاب إلى دمشق خلالها خوفاً من اعتقال النظام”، مضيفاً: “بقيت أخبار أدهم مقطوعة حتى عام 2015، حين اتصل شاب مفرج عنه من سجن صيدنايا بأحد أقاربي، وأبلغه أن أدهم استشهد في السجن تحت التعذيب”.

كان والد الشهيد أدهم يتحدث بصعوبة في السابق، ويتظاهر بالقوة، إلا أنه انهار باكياً فجأة، ليختلط بكاؤه مع بكاء والدة الشهيد، التي لم تتوقف عن البكاء كل الوقت، وليعلوَ بكاؤهما فوق كل شيءٍ حولهما.

توقف الأب عن البكاء وقال: “بإمكاني أن أتخيل أن يطلق شخصٌ ما الرصاص على آخر فيقتله، ولكنني لا أستطيع تخيل أن هناك إنسان قادر على تعذيب إنسان آخر حتى الموت، أية وحشية تلك التي يمتلكونها”، مضيفاً بغضب: “لقد حدثني أحد المفرج عنهم عن قسوة التعذيب التي كانوا يلاقونها، وقال لي بأن السجانين كانوا يسوقونهم وهم مقيدون بالسلاسل، وعليهم نزول ثلاثين درجة للأسفل، وعندما يصبح آخر معتقل على أعلى درجة، يقوم السجانة بركلهم بأرجلهم أو دفعهم ليتساقطَ المعتقلون فوق بعضهم بعضاً، فيصاب بعضهم بكسور، وآخرون بجروح، ويموت بعض منهم جراء سقوط  زملائهم فوقهم وبقائهم لساعات على هذه الحال، دون أن يستطيع أحد منهم النهوض، إلى أن يقرر السجانة أن يساعدوا المعتقلين على النهوض”.

ثم عاد والد الشهيد للحديث عن ابنه وهو يمثل بجسده ما رواه له ذلك الشاب قائلاً: “لقد علقوا أدهم بالسقف ثماني ساعات متواصلة، هكذا أخبرني الشاب، لقد كان ابني شاباً بعمر الورد، واستشهد تحت التعذيب بين أيديهم”.

بعد وصول نبأ استشهاد أدهم، أقامت عائلته عزاءً له في بلدتهم الجانودية، وبعد عدة أشهر جاء إليهم رجل من اللاذقية يدعى أبو العبد، جاء يسأل عن أدهم، كان معه في السجن، وأفرج عنه قبل أن يستشهد أدهم، تفاجأ الرجل باستشهاد أدهم وبدأ بالبكاء حزناً عليه، لم يكن يعلم بذلك، وروى لوالد الشهيد كيف قضى ثلاثة أشهرٍ برفقة ابنه أدهم. 

قال لي أبو العبد: “لقد نمنا على سواعد بعضنا أنا وأدهم ثلاثة أشهر، كنا في نفس الزنزانة نعيش ملتصقين، ولأن المكان مكتظ بالمعتقلين، كان لكل معتقل بلاطة واحدة ينام عليها على جنبه، فكنت تارة أضع يدي تحت رأسه، وأخرى يضع يده تحت رأسي، ثم خرجت أنا وبقي أدهم، لقد كان شاباً طيباً”.

حبس الوالد دموعه في عينيه، وأخفى تنهداته بدخان السجائر الذي ملأ المكان، بينما كانت والدة أدهم تكفكف دموعها باستمرار، لتتأمل صورة أدهم الموجودة على باب الخزانة، ثم تعود لتمسح دموعها مرة أخرى لتمعن النظر في صوره الموزعة على الجدران.

رفع والد الشهيد “أدهم غازي مرشان” رأسه، وقال وعيناه تفيضان بالدمع: “منذ اعتقاله وحتى هذه اللحظة، لا يمر يوم دون أن أبكيه، وأشعر كم كان يتوجع، بينما هم يتسلون بتعذيبه، ويستمتعون بصوت صراخه، في قلبي حقد على سجانيه لو مزج بماء البحر لأصبح البحر أسود”، عاد للصمت وهو يدخن سيجارته السابعة دون أن يشعر بارتياح أو هدوء.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*