الكرامة الضائعة تحت أقواس إشارات الاستفهام

ياسمين محمد

#ناجيات_أم_ليس_بعد #Survivors_or_not_yet

اسمي لبنى وعمري 32 عاما، أعمل معلمة مدرسة، ومهربة وتاجرة أسلحة كما قالوا لي في فرع الأمن السياسي بحلب بعد اعتقالي الذي لم يدم أكثر من عشرين يوما، كانت بالنسبة لي دهورا من الأهوال.

لم أكن أعرف أين أنا كما لم أعرف إلى أين يقتادونني مكبلة ومعصوبة العينين من بيتي في حي الإسماعيلية بحلب والذي انتقلت إليه عقب زواجي إذ أنني من بلدات ريف إدلب.

أخذوا أقراطي وربطة شعري، دبابيس الحجاب، قصوا حزام معطفي وحين سمعت صراخ المعذبين وشممت رائحة الرطوبة بدأت جلسات التحقيق.

لم يكونوا يضربوننا نحن النساء، لكنهم كانوا يجلبون الشبان أمامنا ويعذبونهم بوحشية لم أرها من قبل، ولا أظن أنني يمكن أن أنساها ما حييت، شبح وكهرباء وأقفاص حديدية، بينما كنا نسبح بالقذارة والجرب والجوع والرعب في حفرة ملعونة تحت الأرض لن تصل الوحوش إلى دركها أبدا.

خرجت من المعتقل في ربيع 2015، وتركت خلفي نساء مريضات وحوامل أسقطن من الخوف، كان معظمهن من المتعلمات (طبيبات، معلمات، وموظفات) تم اعتقالهن بسبب الثورة.

طلقني زوجي بعد خروجي من السجن، كان يخشى أنني تعرضت للاغتصاب ولم يستطع رغم شهادة الصيدلة التي يحملها من أن يصدق روايتي أو أن يتفهم عدم مسؤوليتي، لم أكن أدرك أن خوف محيطي من عار السجن أكبر من خوفه على حياتي وحريتي، كانت الأسئلة تحاصرني أينما ذهبت، تحوم بمجملها حول ما إذا كنت قد تعرضت للاعتداء، وحين لا يتمكنون من توجيه الأسئلة بشكل مباشر وصريح  كنت أراها  في عيونهم، أشعر بنظراتهم المتهِمة وبازدرائهم بي.

بعد طلاقي الذي سهله عدم وجود أطفال، عدت إلى بيت أهلي وجعلت من غرفتي سجنا طوعيا لي، وغادرتني الرغبة في رؤية الناس، إذ لم يكتفوا بالأسئلة المبطنة بل وصلت بهم الحالة إلى السخرية مني والتهكم علي.

أمران كانا يحزان في نفسي كثيرا، مشاركة الشريحة المثقفة في المجتمع بتلك الانتقادات الموجهة لي، وازدواجية التعامل ما بين المعتقل والمعتقلة

تفاقمت عزلتي كما تفاقم العداء الذي بت أشعر به من حولي، حتى أمي لم تستطع حتى الآن تقبل تجربتي، وما زالت تعاود جملتها المعتادة في كل غضبة مني: “ليتك مت ولم تخرجي من السجن.. من سيتزوج بك الآن؟”، فبعد ما تعرضت له من إحراج وتلميح عما فعلوه بي لم تستطع أمي مواجهة المحيط، وهي البسيطة التي تدور حياتها حول بيتها، فيما كان أبي الذي كان معلما أكثر تفهما وتقبلا لي قبل أن يتوفى، ولذلك فإنني صدمت ممن كنت أرجو حمايتهم.

أصرت أمي على معاملتي بدونية لأنني سجنت، وكان السجن سببا في طلاقي، وفي إثارة الأقاويل في البلدة، وإحراج العائلة في كل مناسبة عبر التشكيك فيما جرى لي في المعتقل.

أمران كانا يحزان في نفسي كثيرا، مشاركة الشريحة المثقفة في المجتمع بتلك الانتقادات الموجهة لي، وازدواجية التعامل ما بين المعتقل والمعتقلة، وكنت أتساءل كيف لمن يملك الوعي أن يرمي معتقلا مسلوب الحرية والإرادة بتهم ليس له ذنبا بها، بل كانوا أشد إيلاما في مزاحهم حين يحاولون النيل مني بشكل أو بآخر، وأصبحت في نظرهم “خريجة سجون في نهاية المطاف”، كما كنت أتساءل أيضا ما هو الفارق ما بين النساء والرجال حتى يخرج الرجال من السجن كالأبطال في حين تخرج النساء منه كحاملات الرزيلة. 

لم يخلو الأمر من بعض المتعاطفين بإيجابية معي، كانوا يرون أن ما تمر به المعتقلات في السجون لا يمكن أن يكون وزرا عليهن إذ لم يخترن ذلك، لكن هؤلاء الأشخاص كانوا قلة، ورغم ما حاولوا تقديمه من دعم وسند وحجج كنت بأمس الحاجة إليها، إلا أن الكم الكبير من المتهمين لي كانت أكبر بكثير ما جعل صوتهم يطغى ويتلاشى أمام دعم النصير.

اليوم تعتريني رغبة المغادرة والتخلص دفعة واحدة من تلك الأسئلة المقيتة التي ما توقفت حتى بعد مرور كل هذا الوقت، والتي تعود كلما مرت سيرة السجناء والاعتقال، أرغب بشدة في الخروج إلى عالم يعيد لي بعض الكرامة التي شعرت بأنها ضاعت تحت أقواس إشارات الاستفهام.

لم يستطع أولئك الذين نبذوني أن يفهموا أن كل امرأة في أي مكان من سوريا يمكن أن تتعرض للاعتقال بأي لحظة، فآثرت الصمت لأنني كنت أعرف نتيجة دفاعي عن نفسي، فهم في نهاية المطاف سيقولون إنني أدافع عن نفسي لأبرر ما تعرضت له من اغتصاب واعتداء، رغم أن صمتي كان يدينني أكثر.

لجأت إلى طبيب نفسي بعد حالة هيسترية شعرت خلالها بعدم قدرتي على التفكير أو الكلام، وبخلل بات واضحا في محاكمتي العقلية، وفي المشفى قالوا إنني أعاني من انهيار عصبي، لكن طبيب الأعصاب الذي حولوني إليه قال بأن حالتي نفسية وبأنني أعاني من اكتئاب حاد، استمرت فترة الأرق وقلة النوم لشهور طويلة، راجعت فيها أكثر من طبيب نفسي أعطوني أدوية مهدئة ومنومة.

مرَّ عام وأنا أنوس ما بين الأرق والمهدئات، بلغت الإدمان عليها، تخرب جسدي، لازمتني رجفة في الأطراف، صعب النطق أكثر، لكني تمكنت بعد فترة عصيبة من تجاوز المحنة.

عدت لعملي كمنشطة تربوية أعمل مع الأطفال، أشعر براحة كبيرة معهم، فهم لا يغمزون ولا يكذبون.

انتهى سجني في فرع الأمن السياسي بعد عشرين يوماً، لكن سجناً آخر ما زلت فيه حتى اليوم.. وقد لا ينتهي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*