رسائِلٌ تحْتَ ضَوءِ القَمَرِ

زيتون – أنس بكور

أتذكرين يا مريمُ؟

هذا المنديلُ كان آخرَ حاجزٍ بيننا !.

مسحت به دموعَك قبل أنْ نفترقَ وقلتِ:

– “أصبحَ لديّ قلبين وأنتَ قلبي الثالث, ماذا ستسميه؟

– آه عزيزتي مريم وهل غابَ صديقي فارس من قلبي لحظةً منذُ أنْ استشهد؟ لقد كان طرفي الآخر الذي ينتهي إليه ظلّي!

آه كم أصبحت اليومَ المسافاتُ بعيدةَ بيننا, أنا هنا منذ تسعة شهور في رحمِ هذه الحفرةِ على تلّةِ العيس, وأنت تتدثرين ببقايا خيمٍ مهترئةٍ في مخيماتِ عرسال.

منذُ أنْ افترقنا عندما خرجْنا من (القصير), لا زلتُ أذكرُ دمعاتَك وأنتِ تعطيني هذا المنديلَ قلتِ لي: “سأنتظرك حتّى وإن افترقنا مئات السنين”.

أصبحَ بيننا ألفُ جدارٍ من الخوفِ والذلِّ والقهرِ, والحواجزِ المنتشرةِ على جانبيّ الوطنِ ! ولولا رسائلُكِ وطيفُكِ المرتسمُ كلّ ليلةٍ على وجهِ القمرِ يكلمُني وأكلمكِ لأصبحَ قلبي مثل صخورِ هذه التلّةِ ولتناثرَ جسدي تراباّ تسفُّه رياحُ أيّار في هذه البراري اللاّهبة.

أخرجَ خالدٌ منديلا ً مطرزا ومكتوباً على حافته ومشغولٌ بعناية كبيرةٍ: (خالد ومريم) وبينهما مرسوم ٌزهرة النرجس، قبضَ عليهِ بقوةٍ وشمَّه وضمّه إلى صدرهِ, فاحتْ منهُ رائحةُ عطرٍ قويةٍ وقليلا من الغبارِ والبارود، كان ملفوفا ً بها شيءٌ ما بعناية، وكان خالدٌ يُخْرجُه ويطمئنُّ عليه بعد كلِّ معركةٍ تعصفُ بالتلّة.

“هذا الخاتمُ الذي جمعَ قلبي إلى قلبكِ، سيجدُ إصبعهُ مرّةً أخرى يوماً ما”

كان يخاطبُ صورةَ مريم في وجهِ القمرِ, تلك الليلةُ لما جاءَ مع أهله ليخطبَها وقد كان القمرُ يتأرجحُ في بركةِ الماءِ وسطَ ساحةِ الدّارِ, وكانت الأضواءُ تلمعُ مثل حبال ِأضواءِ ليلةِ العيدِ , وأخرجت وردةً جوريةً من المزهريةِ وأعطتهُ إياها، لكنْ لم يكن يدري أنَّه بعدَ أشهرٍ سوفَ تتناثر شظايا المزهرية بكل اتجاهات أصقاعِ البّلادِ.

تمتدُّ الحفرُ الفرديّةُ على طولِ خطِّ الجبهةِ الشرقيَّة للتلّة, وجميعها مرتبطة ٌمع بعضها بخندقٍ وهذا الخندقُ يمتدُّ إلى قريةِ العيس المجاورة, يسميه الثوار بالحبل السريّ، فهو الذي يغذي هذه الحفرَ بكلِّ ما يحتاجه المقاتلُ في بطنِ الأرض، وكانت السياراتُ التي تنقلُ إطاراتِ السّيّارات ِالتالفة لا تنقطع قادمةً من كل المحافظةِ ليشعلها الثوار ويعملوا من دخانها غيوماً لدخانٍ أسود بهدف التعتيم على الطيران أثناء تحركاتهم في النهارِ، تصوروا المنازلة مع من؟ دولاب جرار مهترئ مقابل سيخوي34

مرَّت غيمةُ غبارٍ لحظاتٍ ناتجةً عن قذيفة ٍنزلتْ للتّو قربَه فحجبت القمرَ للحظاتٍ ثم انقشعتْ وغابَ فكرُ خالد قليلاً وشردَ بذكرياته ريثما تعود الصورةُ للوضوح :

– أنا هُنا في حُفرَتي وهي عِبارةٌ عن حفرةٍ بعمقِ مترٍ ونصف تقريبا ً ناتجةٍ عن صاروخٍ فراغيٍّ من إحدى المقاتلات الروسيةِ كنتُ وضعتُ على حافتها أكياسَ رملٍ.. في هذه الحفرةِ أُمضي مع بقية المجاهدين ساعاتٍ طوالٍ, نراقبُ أيَّ حركةٍ أو خشخشةٍ من أسفلِ التلّة وأحيانا ً نغني ونهتف ونستعيدُ ذكرياتِ المظاهراتِ في ساحة السّاعةِ وعبدُ الباسطِ يهتفُ: حانن للحرية.

لكنَّ ساعاتِ الوَحدةِ هنا بالنسبةِ لي هي الأجمَل، وقتَ طلوعِ القمرِ من الأفقٍ الشرقيِّ , قمرٌ ذهبيُّ اللونِ كرغيفِ خبزِ تنورٍ خرجَ من بيتِ النَّارِ منذ قليل ومع قطراتٍ من ندى الليّل المتبخِّر بفعلِ حرارة النّهار المُخزَّنة في هذهِ الصّخُورِ والتربةِ، ارتمست هالةٌ كالتّاج يحيطُ بهذا الجرمِ السماويِّ اللّطيف, جو من الساحريَّة والجمال الأخاذِ, واليومُ كان الرغيفُ بكاملِ رونَقِهِ وشهيَّتهِ.

لكنّي رأيتُ وجهكِ حزينا، هل لا زلتِ قلقةً من حلُمكِ الذي يأتيكِ كل فترة؟

عزيزتي مريم: لا تحزني فالأحلامُ والكوابيسُ منذ أنْ خرجنا من (القصير) أصبحت حقيقة ً وما حياةُ الناسِ العاديةِ بالنسبة لنا إلا حلم أصبح بعيدَ المنالِ وهذه الحرب منذ سنواتٍ ما هي الا كابوسٌ أصبحَ يأكلُ ويشربُ معنا ويشاركنا في أعراسنا وأفراحنا وسهراتنا لقد ألفنا الشقاءَ وهو ألِفَنَا وأحبَّنا.

هبَّتْ نسمةٌ عليلةٌ على التلّة وتأرجحت خصلاتٌ من شعرها على خدهِ كرموشِ سنابلِ قمحٍ ممتدةٍ من القمرِ إلى قمرته هنا في سريرِ الأرضِ فراح يُسرِّحُ تلك الخصلاتِ بكل هدوءٍ بيده اليمنى وبيده اليسرى قابضاً على البارودة التي لا تتعب موجهها إلى الشرق.

عزيزتي مريم: “ما همَّ إن قامت حربٌ عالميةٌ فوق هذه التلّة ومهما حدث، فلن نتزحزح أبدا، وإن كلماتِ ابن الوليدِ في كلِّ لحظةٍ يتردد صداها هنا من صخورِ هذه التلة كالنشيدِ اليوميِّ قبل كل عاصفةِ صواريخٍ ، لمّا وقفَ هنا من أمام التلة وكان يومَها اسمها تلّة قنسرين ونادى على جموعِ الرومِ : “إنكم لو كنتم في السحابِ لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم الله لنا”

وهذه المعركةُ الرّابعةُ لاقتحامِ هذه التلة:

آلاف القذائف ولا يقلُّ عن تسعِ طائراتٍ وسبعِ مروحياتِ وخمس راجمات صواريخ ولا تهدأُ تتناوبُ على قصفنا، يريدون قلعَ هذه الندبةِ من الأرضِ بأيّ ثمنٍ فقد أوشكتْ مخازن الرُّجولةِ أن تنضبَ عندهم بسببها، ولكن هيهاتَ يستطيعُ أحدٌ قلعَ هذه الشامةِ من خدِّ الأرضِ السمراء.

مخلوقٌ عجيبٌ أنت، طيفكُ يلامسُ روحي رغم المسافاتِ بيننا أتعلَّقُ بحبالِ الضوءِ المنبعثةِ من هذا القمرِ الذهبيِّ, التقطُ كلّ ليلةٍ شعاعاً وأحكي معك.

فيا أيها القمر العزيز:

“كم من حبالِ الضّوءِ تُرسِلُها كلَّ يوم للعشاق؟ كم من كلمات الودِّ والحُبِّ تسمع في سرِّك وتحفَظُها في حناياكَ عبر مئاتِ السنين؟ يا رفيقَ كلَّ محبّ، و يا مؤنسَ كلَّ وحيدٍ بعيدٍ عن روحهِ، رجاءً لا تذهب خلفَ الجبال, لا تغبْ في المنفى البعيدِ.

في غيابكَ يهجمُ شبحُ الواقعِ فتسري بجسدي قشعريرةُ الألمِ والاسَى، فأرى جَسدي قد أصبحَ كصخرةٍ من هذه التلة الموحشة، وحده ضوؤك المنبثقُ في ليالي أيار والمتدفقُ على هذه التربةِ ما يجعلُ من هذه التلّة نبعاً من الحنانِ، هي ثدي أم حنونة ترضعُ صغارها وتحتضنهم عند هبوبِ العاصفة، تغطيهم في ليالي البرد.. تجعلُ من ظهرها درعاً، عندما تعوي القذائف وتمطرُ السَّماءُ براميلاً متفجرة”.

واليوم حانت ساعةُ الولادة ِ,

هناك في خيمةٍ في قلبِ السَّهلِ في لبنان سيخرجُ فارسٌ إلى الوجود ليصبحَ قمرا آخرَ في حياةِ مريم وخالد، وهنا من قلبِ التلّة أزفت ساعةُ مولودٍ آخر،

“هجوم ” صاحَ نزارٌ قائد المجموعةِ وانطلقتْ الأسودُ من آكامها تزأر ” الله أكبر ” .

كان الوقتُ بعدَ منتصفِ اللّيل قُبيلَ الفجرِ.. وقَمرُنا على وشكِ الغُروبِ, وصورةُ مريمَ في القمرِ الأحمر الكبير راحتْ تنغرسُ بالأفقِ الغربيّ تتقاطعُ مع أشجارِ السّرو على طريقِ استراد حلب – دمشق أصبحَ للعيونِ العسليّةِ رموشٌ تمتدُ إلى قلبِ السماءِ.

“يا أجمل عيونٍ رأتْ عيني تصبحينَ على وطنْ”

انبثق الدّمُ هنا وهناك مع ظهورِ أولى خيوط الفجر، تطايرتْ أكياسُ الرّملِ وقُذِفت بعيداً.. وجَرت دماءٌ غزيرةٌ, ملأت حفرةَ الصاروخ الارتجاجيَّ.. وعلى سطحِ ذلك السائلِ انعكستْ بقايا أشعةٍ براقةٍ تتلألئُ كما أضواءُ ليلةِ عيدِ الفَطرِ وأصواتُ التكبيرِ تصدح ُمن كلِّ مكانٍ.. وصورةٌ لعيون تدمع وتتماوج مع انبثاق أولى خيوط ُالفجر المنبعثة من الأفق الشرقي، وعلى ذلك السائلِ الورديِّ راحتْ تتمايلُ بعضُ أوراقِ رسائل ٍومنديل فاحتْ منهُ بقايا عطرٍ وكثيرٍ من الغبارِ والبارود.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*