زيتون – غادة باكير
على الطريق الطويل الممتد بين الرقة وحلب داخل السيارة التي تسابق القدر المخيف، كانت الألسن تدعو ربها أن تنتهي مسافة الموت وتصل إلى بر الأمان، وبينما كانت تلك القلوب الصغيرة تستشعر الخوف في عيون والديهما ظلت تستجدي الحصول على الأمان في حضن أمهم.
الطيران في السماء لا يغادرها والقصف العنيف الذي تتعرض له الرقة يجعل الموت ينتشر في كل زاوية، ما دفع السيد “عبد الحميد شعبان” والد ماريا للهرب مجدداً بعائلته، في نزوح عكسي، بحثاً عن الأمان، بعد أن دفعته الظروف القاسية في حلب للنزوح منها إلى الرقة في عام 2013.
في شهر آذار من عام 2017 تفاقم الوضع في الرقة حتى بات مرعباً، فقرر النزوح ثانية إلى منبج، لكنه لم يدرك أن الطيران الذي يستهدف المدنيين بكل وحشية في الرقة، سيجعل من سيارة الأجرة التي استقلها مع زوجته وطفلته الصغيرة ماريا وإخوتها الثلاث هدفاً للصواريخ.
قتل جميع من في سيارة الأجرة بمن فيهم السائق، إلا أن الموت أشفق على ماريا التي أصيبت وتم نقلها للمشفى وبترت قدمها، لتبدأ معاناة الطفلة ذات الأعوام الثلاثة بدون قدم وعاجزة عن المشي وحيدة وبدون عائلة.
رحلة العلاج في مركز الخطوات السعيدة
رحلة علاج ماريا كانت طويلة ومؤلمة، لكنها وجدت في زوجة عمها أماً لها ترعاها وتتابع حالتها في“مركز الخطوات السعيدة” في الشمال السوري بالقرب من معبر باب السلامة، والذي يختص بتركيب الأطراف الصناعية، وفيه تم تركيب الطرف السفلي لها، كما تابع المختصون فيه حالتها الصحية والنفسية.
تقيم ماريا حالياً في منبج وتتمتع بحالة صحية ونفسية جيدة بعد تركيب الطرف لها وقدرتها على المشي والركض مجددا، وقد رصدت وسائل إعلام عديدة حالتها، وتم نشر مقاطع مصورة لأولى خطواتها فيما تبدو الفرحة على وجهها.
مدير مركز الخطوات السعيدة الطبيب “مصطفى النجار” أفاد لزيتون بأن 13 حالة يتم فيها تركيب أطراف في الشهر الواحد، وهو ما يجعل مجموع عمل المركز خلال ست سنوات منذ إنشائه في عام 2014 وحتى الأن هو ما يقارب 900 حالة.
موضحا أن الفترة الممتدة ما بين عامي 2014 و2018 شهد المركز فيها ضغطا كبيرا نظرا للحاجة المتزايدة نتيجة لانتشار الاصابات وحالات البتر، فضلا عن عدم وجود مراكز أخرى رديفة تساهم في تقديم الأطراف للمصابين.
قلة المراكز المختصة وعجزها عن تلبية الاحتياجات
تعتمد المراكز المختصة في تقديم الأطراف على المساعدات التي تقدمها منظمات دولية وإنسانية أو منح فردية، وهو ما بدأ به مركز الخطوات السعيدة عمله عبر دعم فردي، ليستمر بعد ذلك بدعم من منظمة “الهانديكاب” العالمية، فيما يتم التوجه حاليا إلى تركيب وتصنيع الأطراف بشكل محلي من قبل العاملين في المركز.
يضم المركز فريقا من المختصين بالدعم النفسي والعلاج الفيزيائي، سعيا منه لتغطية حاجة المصاب قبل وبعد تركيب الطرف ومتابعة حالته الجسدية والنفسية.
ويرى الطبيب النفسي “سعيد عز الدين” أن الطفل الصغير يمتلك مرونة جسدية ونفسية عكس الشخص البالغ، فهو يتقبل الوضع الجديد من خسارته لطرفه وينسجم معه، ولكنه يحتاج لإعادة تأهيل لمساعدته على التأقلم بواسطة الإرشاد النفسي والتفريغ النفسي بطرق الرسم أو التداعي الحر حيث يترك الطفل يتحدث دون تعقيب.
ويبدأ العلاج بصعوبة بسبب الحالة النفسية السيئة للطفل مع ما يرافق العلاج الفيزيائي من ألم، لا يلبث أن تظهر تغيرات على الحالة النفسية مترافقة مع بداية القدرة على حركة الطفل وتجاوبه مع العلاج، وهو ما يعيد الأمل للطفل ويدفعه للإصرار على الشفاء.
غياب الدعم الدولي يضعف عمل المراكز ويغلقها
أرقام الإحصائيات المقدمة من المنظمات الدولية تثير القلق نتيجة لضخامة عدد المصابين، ويشير التقرير الصادر عن منظمة “هانديكاب” العالمية إلى مليون ونصف سوري تعرضوا لإعاقة دائمة وأن الأطفال يشكلون ثلث مصابي الأسلحة المتفجرة في سوريا والذين وصل عددهم عام 2017 إلى 3 ملايين مصاب.
وقدر تقرير آخر لمنظمة الصحة العالمية عدد المصابين بإعاقة دائمة بمليون ونصف سوري، مليون منهم من الأطفال، فيما بلغ عدد الذين بتر أحد أطرافهم 86 ألفا.
فيما تشير تقارير حقوقية صادرة عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان ومنظمات أخرى إلى أن قوات النظام السوري هي المسؤول الأول عن هذه الإصابات بنسبة تصل إلى 90 بالمئة فيما تتحمل الأطراف الأخرى مسؤولية الباقي.
ونتيجة لذلك فإن النسبة الأكبر من الحالات تتواجد في المناطق المحررة التي تشهد منذ سنوات عمليات قصف وتدمير، وفي ذات الوقت فإن المنطقة الشمالية ومحافظة إدلب تحديدا ذات الكثافة السكانية الكبيرة بعد تهجير أعداد كبيرة من السوريين إليها، تفتقر إلى المراكز المختصة بتركيب الأطراف وصعوبة متابعة عملها في ظل غياب الاهتمام اللازم من المنظمات والجهات الدولية سوى في حيز محدود ومؤقت.
“جلول” الذي يشارك المبتورين معاناتهم نتيجة كونه مبتور الأطراف والذي شكل لديه دافعاً قوياً الافتتاح المؤسسة وتقديم العون للمصابين، يوضح أن المراكز الموجودة غير كافية لتلبية الاحتياجات، إضافة إلى صعوبة تأمين الأطراف الصناعية من الخارج، وقد ساهمت مؤسسة الأمل بتقديم أطراف لـ 50 حالة بتر.
ومن بين الحالات التي تمت مساعدتها الطفل “بسام تركماني” من ريف حلب ذو السنوات الثلاثة والذي فقد ساقه اليمنى جراء إحدى غارات الطيران الحربي على منزلهم، ويتلقى “بسام” العلاج حالياً في مؤسسة أمل بعد تركيب طرف له وتدريبه على المشي والحركة باستخدام الطرف الصناعي.
أما الطفل محمد /12/ عاماً من ريف إدلب، لم يجد من يساعده بعد فقدانه ليده اليمنى إثر قصف طائرة حربية استهدفت حيه قبل نحو عام أثناء اللعب مع رفاقه، ويقول بأنه يعاني اليوم من الحزن والعجز بسبب فقدان يده وعدم قدرة عائلته على تأمين طرف له لذلك يساعده إخوته للقيام بأي عمل.
تم إنتاج هذه المادة بدعم من منظمة FPU